أضواء على الأنانية القاتلة
في عالم الأنانية، يحتكر كل شيء،، تحتكر الحقائق، و تحتكر المعرفة، يحتكر الإيمان، و يحتكر الطهر، تحتكر الفضيلة، و تحتكر الخيرية، و تحتكر الوطنية، و يحتكر الإبداع، و تحتكر ، السلع و البضائع، في عالم الأنانية كل شيء محتكر، و كل الأشياء محتكرة، في عالم الأنانية يحتكر الدين و السياسة، في عالم الأنانية تصبح المعاني و المفاهيم محتكرة، فيصبح الفن و الثقافة و الأدب أماكن محجوزة ، كأن ذلك العالم مخلوق لنسق وحيد، مخصص لفئة أو طائفة بعينها ، أو مجموعة محددة من البشر، فيصبح العالم مرهون، محبوس في عالم الأنا .
و حين نكشف اللثام عن تلك الأنانية يظهر القبح و الخبث، و لؤم الطباع، لأن الأنانية مرض عضال من أمراض البشرية، فبسبب تلك الأنانية ارتكبت أول الجرائم ، و سقطت أول قطرات الدماء طاهرة، في عالم نظيف لم يسبق أن عرف الغدر و الجريمةو الخيانة .
و بسبب تلك الأنانية ظهرت الغيرة و الحقد و الكراهية فخرجت أول كلمات إبليس عليه لعنة من الله بالاستعلاء و الكبر المذمومين ( أنا خير منه ) و في عالم الأنانية ينشأ الطمع و الجشع، فتحتكر الثروة و الموارد ، فأصبح رأس المال حكرا على مجموعة متغلبة، أو تحت قبضة رجال متسلطين ، يحجرون النفع العام، فلا الضعيف ينال حقه و لا المسكين و لا الفقير، بل كبرت تلك الأنانية ليصير المال ربا يعبد دون الله تعالى .
و لعل أدق تصوير استحضرته و أنا أتناول المقال مقولة رائعة اقتطفتها من كتاب في ظلال القرآن للأديب الشاعر و المفكر سيد قطب رحمه، وجدت فيه التصوير رائع لأنانية حب المال يقول فيها صاحب الظلال يقول :
" وقارون في قصتنا يمثل قوة المال وسطوته ، حين يستأثر به صاحبه ، ويظن كل الظن أنه مالكه و مجتبيه ومحصله وجامعه ، مهما كانت أسباب جبايته وتحصيله ، وأنه إنما أوتيه بقدرته ، فهو المتصرف فيه وحده ، وما دام قد جمعه بسبب منه ومقدرة ، فلم لا ينفقه أيضاً بحرية منه و انطلاق ؟!
ولقد بلغ مال قارون مبلغًا عظيمًا ، يعجز الرجال عن حمل مفاتيح كنوزه . يقول الحق تبارك وتعالى (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) .
وبالطبع فإننا نلاحظ هنا الارتباط بين قصة موسى مع فرعون ذي الطول والحول ، ومصيره الأليم ، والتعقيب عليها بقصة قارون ذي المال و الجاه زيادة في تطمين النفوس المؤمنة إلى ضعف هذه القوى حين تبغي الفساد في الأرض .
وهنا يبرز السؤال كيف يكون البغي بالمال ؟
لم تتعرض السورة الكريمة لصور البغي ، ولم تذكر فيم كان البغي لتدعه مجهولاً لا يشمل شتى الصور ، فربما كان البغي (بظلمه قومه وغصبهم أرضهم وأشياءهم ، كما صنع طغاة المال في كثير من الأحيان ، وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال ، حق الفقراء في أموال الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ، ومن حولهم محاويج إلى شيء منه ، فتفسد القلوب وتفسد الحياة) وربما بغي عليهم بانتقاص حقهم ، أو تكليفهم ما لا يطيقون من الأعمال لقاء أجر زهيد لا يستطيعون معه مواجهة تكاليف الحياة " .انتهى
و. من صور الأنانية القاتلة، صور الصلف و الكبر و البطر و الظلم، غمط الناس ، حين تخلد تلك الصفات الذميمة في كيان الانسان ؛ حتى يتخيل الأناني نفسه إلها يعبد دون الله تعالى
" وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين } اصنع لي من الطين الآجر لأرتقي به إلى السماء لأرى إله موسى ... وإني لأظنه من الكاذبين" و يزيد صلفه و تكبره و استغلاه و سوء ظنه و تشكيكه بألوهية رب السماء، و هنا الشك و هذا الكفر مرده تلك الأنانية التي استولت على كيان الإنسان، ليصبح النظر و التفكير مغلق، و تصبح الأشياء في نظره ملكا جبريا للملك، و هذا منتهى جنون العظمى .
( ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار ) أنهار النيل ( تجري من تحتي ) من تحت قصوري ، و هي صور لا بتخيل الإنسان أن يصل لمستوى هذه السطوة في العنفوان و الجبروت.
و من صور الأنانية أن يحبس النفع العام ، فلا نقدم الأصلح و الأقدر صاحب الكفاءة ، فالأناني لا يسره أن يرى أصحاب المواهب و الناجحين في المقدمة ، فالأناني عدو للنجاح ، يرى نفسه أحق بكل المزايا ، يستأثر بها دون زملائه،، يرى نفسه أحق بكل مكتسب ، و ربما هو أقل شأنا من غيره ، و ربما لا يستطيع تحمل واجبات و تكاليف ما يراد احتكاره ، تراه يتباكى ليظهر في أعين الناس مظلوما و مقهورا ، و مبدأه الغاية تبرر الوسيلة،
و حين نسلط الضوء على أضارها أقول:
ومن أضرارها أنها مجلبة للنقم ، مذهبة النعم الموهوبة، محبطة الأجر و المتوبة ، مورثة الضغائن و الأحقاد، ، مخرجة أسوء ما في النفس من وضاعة و حقارة دناءة ،و في محصولها معول هدام، يدمر كيان الإنسان نفسه، ، تؤذي بالآخرين ، فتكون الخصومة بين مفاصل المجتمع، و يحصل التنافر، فيصبح القريب بعيدا ، و الحبيب عدوا ، و تضيع المودات و الوسائج و الأرحام، ومعها تذهب منظومة قيم في المجتمع،
و لعل ما نراه اليوم في أحوال الناس مرده لشيوع هذا المرض المدمر ، و ما نراه من صور الأنانية الضاربة في كل مجالات الحياة، صور تحبس لها الأنفاس. .
لهذا كانت الأنانية أقوى عدو داخل النفس، فإن انتصر المرء عليها، كان سيدا، ميز الخير، و أدرك سبيله بسهولة، و أدرك مواطنه ، و حدد أماكنه ، و سهل عليه السير في ركبه؛ أما إذا امتلك كيان النفس، صعب عليه الانحياز للحق، و ظلت تلك العلوية تسيطر على أحكامه و قراراته، بل ظلت تكبل كل مواقفه و أحكامه ، فتجعله أسير الأنا يرفض تزكية أيا كان ؛ لأنه ببساطة يرى في نفسه الأفضلية، و يرى في نفسه السيد الذي ينقاد له الجميع .
أما أن تكون نفسه مشاركة في صياغة بنية الخير مع الخيريين فلا، و هذا هو الطبع الإنساني المدمر للمجتمعات و الكيانات.
وقد وجدت وصفا دقيقا للأناني للدكتور فواز الغبون ( الأناني يحمل الدكتوراء في معرفة حقوقه ؛ لكنه أمي في معرفة حقوق غيره )
فمتى ننتصر على هذا المرض العضال القاتل؟!
وسوم: العدد 970