لقطات من معاناة معتقل -3-

تحت عنوان "من تدمر إلى هارفارد" كتب الدكتور براء السراج، الأستاذ في قسم زراعة الأعضاء في كلية الطب في شيكاغو، مذكراته عن مدة اثنتي عشرة سنة قضاها في تدمر. ونسجّل هنا بعض فقرات من مذكراته الغنية، في حلقات قصيرة متتابعة:

أول ليلة في سجن تدمر، 6 حزيران 1984م:

المهجع يغصّ بالناس.. إنهم الذين كانوا معنا في فرع دمشق. غرفتان صغيرتان بينهما فتحة باب وكل منهما 4 في 4 أمتار.. دورة مياه واحدة لا سقف لها تسمح بروائح الغائط بالانتشار إلى أرجاء المهجع المزدحم بـ59 شخصاً. الأرض إسمنتية، والجدران قذرة شبه سوداء. أحد جدران الغرفة الداخلية متشقق حتى السقف، ربما بفعل القنابل التي ألقيت على السجناء خلال تنفيذ المجزرة في 27/حزيران/1980م، قبل أقل من أربع سنين.

ننظر إلى وجوه بعضنا بعضاً غير مصدّقين، فهذا المكان لقيادات المعارضة وليس لطلاب ثانوي وجامعات مثلنا. أرى كدمات خضراء وسوداء وزرقاء على وجوه وظهور الذين سبقونا بيوم.. يطمئنوننا أن لا شيء يستحق الذكر وأنه ربما نجونا من حفل الاستقبال، إذ إنه من المفروض أن يحصل قبل الدخول إلى المهجع لا بعده.. بقينا نسأل بعضنا هل يُعقل ذلك. أُحِس بنشوة أننا نجونا حقاً.. أصوات إلقاء الدواليب مع بواري الحديد خارج المهجع تقطّع الأمل والقلوب... اطلع ولا.. صف تنين تنين. أخرجُ في أول الرتل، تلك ستكون عادتي معظم الأحيان لتسع سنين قادمة. صففنا تحت شبابيك مهجع 12 وبدأ حفل الاستقبال. صيحات أصدقائي تُلقي الرعب فيّ، وتمنّيتُ لو خرجت من المهجع آخراً حتى أنتهي من التعذيب أولاً.. الخوف أشد من التعذيب!.

يأتي دوري.. انزلْ بالدولاب ولا.. يأمرني شرطي.

لا أعرف كيف أدخل بالدولاب.

يلتفت إليّ من محادثة مع شرطي آخر.. لسّع ما نزلت يا هيك وهيك.

لا أعرف كيف وجدت نفسي مطويّاً داخل الدولاب، وقدماي مشدودتان إلى بورية حديد ومرصوصة إلى البورية بحبل مثبت لعروتَي حديد على طرف البورية.

شرطيان أو ثلاثة ينزلون بالكرابيج كآلةٍ دون كللٍ أو ملل. أصيح ولا من مجيب.

يضعون شحاطة بلاستيك في فمي.. عضّ عليها ولا..

لا بأس بها لتحمّل الألم!.

عالمهجع ولا.. تلك ستكون أجمل جملة تطرق آذاننا في هذا المكان.

أركضُ إلى المهجع فأجد أصدقائي يهرولون في مكانهم قفزاً.. أفعل ذلك حتى أستطيع المشي عليهما لأنهما ستتورّمان.. كان ذلك صحيحاً، فألم الأقدام سيبقى لأسبوعين على الأقل إن لم يتشقق اللحم، وإلا فشهران على الأقل.

ينتهي استقبال المهجع كاملاً، فيدخل الرقيب حسين، علوي، وراء آخر شخص...

- انهيار الكرابيج على الرؤوس والظهور لا يوصف. 59 شخصاً يحاول كل منهم، في وقت واحد، أن يجتاز درجة مصطبة ثم درجة الباب ليدخل من باب حديدي عرضه 80 سنتمتراً، والشرطة تقف عند الباب تنهال بالكرابيج. لا أدري كيف دخلت.. أغلق الباب.. وجهي أحمر مختنق.. هل يُعقل أن نتحمل شيئاً مذلّ كهذا؟ لم يخطر ببالي أن هذا أول تفقّد من أكثر من ثلاثة آلاف قادمة مثله وأسوأ. نتفقّد بعضنا.. أبو صطوف رجل ذو هيبة من قرى إدلب يبدو ذا مكانة في مجتمعه، قارب الثمانين، إحدى عينيه برجفان دائم لا يستطيع إغلاقها، إبراهيم أستاذ مدرسة ابتدائي قصير القامة.. كلاهما سُحبا من الصف وسيسحبان بين الفينة والأخرى لنيل النصيب من الضرب المبرح. لم يغلق الباب بعد، وبعض الإخوة يتراكض لحجز مكان للنوم بعد الظهر في هذا المكان المزدحم.. عليك أن تنام في حيّز عرضه شبر وعدة أصابع، وعليه فالنوم ليلاً دوماً على الجانب.. "سيّف" يعطي التعليمات رئيس المهجع.. الأجساد متلاصقة بشكل مزعج، ومقابل وجهي أقدام جاري التي كثيراً ما ستوقظني عندما تدخل إحداها في أنفي أو فمي!.

- بدأ النظام الداخلي في المهجع يأخذ شكله مع الأيام الأولى.. رئيس المهجع أبو أيهم، مساعد في الجيش من قرى إدلب، رجل طيب القلب. مسؤول الطعام يوزّع الطعام علينا وقد انتظمنا في مجموعات تأكل سوية، كل مجموعة 10 أشخاص. مسؤول الصوت، مهمته أن يبقى الصوت خافتاً لتجنّب العقوبات.. وكانت مهمة صعبة، بخاصة مع أناس قد لا تسمع ولا تُطيع، فكان الحل هو قطع الصوت عن شخص محدد أو مجموعة تتحادث، وكثيراً ما كان الأمر يتطلب قطع الكلام عن المهجع بأكمله، ويبقى صوت المهجع الهامس كخلية نحل. مسؤول الدورة ينظّم دخول 59 شخصاً لدورة مياه واحدة.. كانت المهمة ليست بالهيّنة، خصوصاً مع شح المياه واختلاف طبائع الناس وطروء أمراض تستدعي الإسراع إلى دورة المياه. مسؤول الغسيل ينظم أدوار الناس لغسيل الثياب..

لقطات من معاناة معتقل -4-

تحت عنوان "من تدمر إلى هارفارد" كتب الدكتور براء السراج، الأستاذ في قسم زراعة الأعضاء في كلية الطب في شيكاغو، مذكراته عن مدة اثنتي عشرة سنة قضاها في تدمر. ونسجّل هنا بعض فقرات من مذكراته الغنية، في حلقات قصيرة متتابعة:

العاشر من تموز 1984م:

كنا في التنفّس صباحاً عندما ناداني أحد الشرطة: أنت الطويل تعا لهون ولا، انبطح وارفع رجليك.. أضربُ التحية بضرب الأرض بقدمي اليمنى ويداي إلى الخلف مطأطئ الرأس. بداية الضرب تُشعرك بالخدر في رجليك قبل بدء الألم.. عشرة كرابيج.. أقف، أؤدي التحية.. أرجعُ خطوة للخلف وأعود لآخر الصف وأنا ممتلئ فرحاً.. لا أدري لماذا أنا ممتلئ نشوة وكأنني قمت بعمل جبار، أو أن ضريبة عن الشعب السوري قد انتهيت من تسديدها، أو هكذا كان يحلو لبعض أصدقائي أن يبرروا وجودنا في هذا المكان... على كلٍّ هذا الشعور بالنشوة بقي يملؤني كلَّ مرة أنجو أو ننجو بها من يوم ملتهب.

الأربعاء 18 تموز 1984م:

قرؤوا ستين اسماً على الأقل.. أسمع أبواباً تفتح بهدوء.. صوت حفيف أقدام السجناء، ثم ركض أبواط الشرطة العسكرية.. السرية بكاملها حوالي 30 شرطياً.. بعد قليل ينزل الضباط لتنفيذ الإعدام: رئيس السجن المقدّم بركات العش، والحاكم العسكري الرائد سليمان الخطيب، وطبيب السجن وربما ضباط آخرون... يوضع السجناء في غرفة الورشة في زاوية الباحة السادسة، ثم يُسحبون بمجموعات إلى المشانق.

الباحة جاهزة للتنفيذ سيادة الـ...

15/ تشرين الأول/ 1984م:

بدأت سياسة شدة التعذيب الجديدة تتضح مع هذا اليوم الغائم، فقد تغير رئيس السجن وحلّ محله العقيد غازي الجهنة، وحسبما علمنا هو علويّ من قرى حمص، وكان ضابط أمن الفرقة الأولى، تعرّض سابقاً لمحاولة اغتيال، لذا فهو يحمل معه ضغناً خاصاً للسجناء سنتبيّنه فيما بعد عبر السنوات المقبلة.

بدأ التفتيش العام للسجن بالباحة السابعة ثم السادسة، واستغرق عدّة أيام حتى وصل الدور إلينا. تغير أيضاً ضابط أمن السجن وحلّ محله الرقيب أول محمد نعمة، علويّ من قرى حماة ذو بحّة صوت مميزة.

وسوم: العدد 971