خارج العالم

اقتراح الرئيس الأوكراني مدينة القدس كمكان محتمل للقاء تفاوضي مع الرئيس الروسي يثير العجب. لا أدري كيف ابتلع زيلينسكي تصريحاً أدلى به منذ أيام قليلة بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية لم يعرض عليه سوى الاستسلام للمطالب الروسية؟ أو كيف لم يلاحظ الموقف العنصري الإسرائيلي من اللاجئين الأوكران عبر التمييز الصارخ بين اللاجئين اليهود واللاجئين غير اليهود؟

أستطيع أن أتخيل حجم الورطة التي وقع فيها الرجل، ما يجعله يشعر بالوحدة رغم سيل الكلام عن الدعم الذي لم يفتح أمام بلاده أبواب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأبقى الدعم في حدود لا تتجاوز خطوطاً حمراء رسمها التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة.

لكن ما لا أستطيع فهمه هو أن يختار رئيس دولة تتعرض للاجتياح والاحتلال مدينة محتلة اسمها القدس كمكان للتفاوض. ما تجاهله فولوديمير زيلينسكي، هو أن الادعاءات الروسية بالحق في السيطرة على أوكرانيا أقل بجاحة من الادعاءات الإسرائيلية بالحق اليهودي في فلسطين. أسطورة روسية مدعوة للتفاوض في مدينة تجسد أسطورة الحق اليهودي. الأسطورة الروسية تستنبط مسوغات تاريخية، أما الأسطورة اليهودية فهي خلاصة المزج بين الدين والعنصرية. وبين الأسطورتين لن تجد أوكرانيا مكاناً لها، إلا كهامش صغير.

الحق ليس على زيلينسكي فقط، بل يقع أساساً على العالم العربي. فبعد احتفالات التطبيع الذليلة، لم يعد يحق لنا أن نعتب على كل الساسة الغربيين الذين يعاملون الحق الفلسطيني والعربي بازدراء.

لكن المسألة ليست هنا.

المسألة هي أننا نعيش في عالم يعيد رسم خريطته بشكل جديد.

الخريطة الجديدة صغيرة وكبيرة في الآن نفسه:

صغيرة؛ لأنها تشمل أوروبا وأمريكا الشمالية. هنا في هذه البقعة الجغرافية يقع العالم الجديد- القديم. عالم يرسم حدوده ويسيج نفسه على كل المستويات، الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والثقافية. عملية طرد الثقافة الروسية من الذاكرة تتم بشكل عشوائي ومبتذل، لكنها تحمل علامات قطيعة مخيفة تعيد أوروبا إلى أجواء الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

وكبيرة؛ لأنها تطرد الجنوب منها من دون أن تطرده، فتحوّله إلى حاضر-غائب. الجنوب غائب لأنه يكاد لا يُرى، وحاضر كسديم متصحّر أو كتلة من الظلال لا يكترث بها أحد إلا بصفتها موانئ استراتيجية أو مصدراً للمواد الأولية، أو فزّاعة للخوف من تدفق اللاجئين.

في هذه الخريطة المكسورة إلى نصفين، هناك عنصر مؤجّل مؤهل للانفجار اسمه الصين.

فالعالم الجديد لا يستطيع طرد الصين من الخريطة؛ لأن العولمة التي صنعتها النيوليبرالية الصاعدة لا تستطيع مواجهة العملاق الاقتصادي الصيني من جهة، كما أنها لا تستقيم إذا بقيت الصين تمتلك كل هذا الجبروت الاقتصادي من جهة ثانية.

هل حرب أوكرانيا هي «بروفة» للحروب المقبلة في المحيط الهادئ؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة لدول الجنوب؟

حتى الآن يجد جنوب العالم نفسه في عزلة الاختناق.

لا روسيا التي تحاول استعادة إمبراطوريتها ونفوذها قطعة قطعة، ولا الصين المشغولة ببناء بنية تحتية إمبراطورية، معنيتان بهموم العالم الثالث. فهذا العالم بالنسبة لهما هو مجرد موانئ ومطارات، ولا مانع من دعم أعتى أشكال الاستبداد فيه، كما فعلت روسيا في سوريا.

هذا العالم المهمش فقد هويته، ولا يستطيع أن يقدم شيئاً، بعد سقوط الدول العربية والإفريقية في قبضة العسكر وملوك الرمل والنفط والفساد والعجز. كما أن أمريكا الجنوبية رغم أنها تشكل اليوم الرئة الوحيدة للتنفس، ليست قادرة على رسم استراتيجيات مستقلة.

الحرب الأوكرانية مؤلمة على أكثر من مستوى:

مؤلمة؛ لأننا لا نستطيع أن نرى المأساة الأوكرانية ونصمت أمام حق الشعب الأوكراني في تقرير المصير.

ومؤلمة أيضاً؛ لأن العالم ينعطف إلى حروب قومية تغذيها الأسطورة، (لاحظوا الدور المتعاظم للكنيستين الأرثوذكسيتين الروسية والأوكرانية في الحرب) ولأن هذا المنحى القومي الأسطوري يجري استغلاله في حرب عالمية جديدة، بدأت في أوروبا ولا ندري إلى أين ستمضي.

ومؤلمة أخيراً؛ لأنها تكشف لنا حقيقة أن العالم العربي طُرد أو طرد نفسه من العالم.

الحلم بقرية كونية يتحقق، لكن شرطه هو أن يكون الجنوب مجرد ضاحيته الفقيرة والمهمشة.

عالمنا العربي خارج كل المعادلات، حتى النفط الذي توهمنا أنه أحد أسلحتنا صار سلاحاً ضد شعوب المنطقة.

خواء شامل وعري يثير الأسى، ومثاله المليء بالدلالات هو قيام الروس بالاستعداد لجلب مرتزقة من سوريا للقتال في أوكرانيا!

إنه فراغ القيم الذي يتجسد في فلسطين، فوسط هذه الكارثة الكونية لا هم للقيادة سوى تأجيل مؤتمر حركة فتح، كي تستطيع طرد الأسرى وشبيبة الانتفاضة الثانية من الحركة، فيستتب الأمر لأصحاب الأمر.

يعتقد الإسرائيليون أنهم خارج هذه المعادلة، فهم جزء من العالم الجديد بصفتهم امتداده الاستعماري في المنطقة العربية، وهم حلفاء تواطؤ متبادل مع الروس في سوريا.

لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية، في الظرف الراهن على الأقل، كسر هذه المعادلة المعقدة. فخساراتها سوف تكون كبيرة في حال حسمت أحد الخيارين. غير أن هذه اللعبة سوف تكشف عن عبثيتها، وتعري مأزق إسرائيل الأيديولوجي كقوة احتلال وتمييز عنصري.

والسؤال هو لماذا يريد زيلينسكي الذهاب إلى القدس المحتلة، للتفاوض من أجل إزالة شبح الاحتلال الروسي عن أوكرانيا؟

هل الاحتلال الإسرائيلي مقبول والاحتلال الروسي مرفوض؟ أم أن العالم يعيش دوامة موت القيم، ففي الحروب القومية والاستعمارية تصير القيم مجرد مطية.

وسوم: العدد 972