فطرة الله الغالية
قرأتُ للأمير الصنعاني قولَه : ( وأهلُ الأقطار قاطبة يمدحون المحسن ويذمون المسيء بعقولهم من دون معرفة الشرائع، بل مَنْ ميز من الصبيان مَدح من أحسن وذم من أساء. وهل مدْحُ أهل الجاهلية لحاتم إلا لإحسانه وكرمه الذي أدركت عقولُهم حسنه ؟ وهل ذموا مادرًا* في جاهليتهم إلا لبخله الذي أدركت عقولُهم قبحه؟ وهل مدحوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في جاهليتهم قبل بعثته وسَمَّوْه الصادق الأمين إلا لأنها أدركت عقولُهم حسن الصدق وأنه يُمدَح من اتصف به ؟ وهل ذموا عُرقوبًا إلا لكذبه وخُلْفِ مواعيده الذي أدركوا بعقولهم قبحه؟ ثم جاء الإسلام مقررًا لهذه الفطرة السليمة ) .
فالمدح كان لمَن أحسن المعاملة ، وشارك الناس في أسباب سعادتهم . والذم كان لمَن أساء التصرف ، وخالف مقتضيات المعاني الإنسانية في تقديم الخير للناس . وهذا كان في الجاهلية قبل مجيء رسالة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم . وكأن المدح للمحسن ، والذم للمسيء نابعان من ذات الإنسان ، أو بمعنى آخر من طبيعة فطرته التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها ، تلك الفطرة السليمة الغالية التي افتقدها أكثر الناس في أرجاء المعمورة ، وفي عصرنا هذا خاصة . ومما لاشك فيه أن الإسلام جاءَ فأثاب المحسن في أفعاله وأقواله ، وأنزل العقوبة التي يستحقها المسيء على إساءته ، وفساد طويته . ولقد أشار العلماء الأجلاء عن معاني الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، من توحيد له سبحانه ، ومن أخذ بالأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة ، والمعاملة الحسنة ، وكلنا يعلم عقوبة مَن يعمل الكبائر ، أو يتصف بسوء التصرف ، ويعيش بذميم الأخلاق التي تنافي فطرة الله الصافية النظيفة التي فطر الناس عليها .
ولقد لفت نظري مايرد أحيانا من مقاطع تذكيرية في مثل هذه الأمور ، من مزايا حميدة ، ومن دعوة لفضائل الآداب ، ومن خدمة الإنسان لأخيه الإنسان ... وغير ذلك من قيم راقية تسمو بحياة الناس ، وتشيع بينهم المودة والإخاء والإيثار ، وباقي مفردات الصفات الحميدة . كما لفت نظري ما أرسلته لي إحدى الأخوات الفاضلات عن طريق الواتساب حول هذا الموضوع الجميل الجليل ، الذي افتقدنا آثاره في حياتنا الاجتماعية ، ويُشير الموضوع إلى العديد من المظاهر التي نراها ماثلة أمام أعيننا بكل قوة ، وتشير هذه المظاهر إلى أن كلَّ ما خلق الله في كونه الفسيح لايعيش لنفسه ، وإنما لغيره . ويذكر الموضوع أن النهر الذي يتدفق ماؤُه لايشرب هو منه شيئا ، وأن البحر الواسع الذي يحتضن أنواع الأسماك لايأكل منها شيئا ، وكذلك مافيه من اللؤلؤ والمرجان فجعله للناس ، وأن الشمس لاتشرق لنفسها ، ولا تمنع نورها وحرارتها عن الخلائق ، وأن الأشجار لاتأكل ثمارها اليانعة اللذيذة ، وإنما تقدمها للناس سائر الناس . وأن الزهرة لاتحتفظ بطيبها بل تمنحه لمَن حولها ... وغير ذلك كثير .
أما الثقلان المخلوقان لعبادة الله الواحد الأحد ، وهما الجن والإنس ، فلم يُعرف أكثرهما بأنهم يعيشون لإسعاد غيرهم ، فإبليس أول مَن جحد نعمة الله عليه وخالف ما أمره الله به ، من السجود ومن مستلزمات السجود ، وذلك لأنه اختار الإساءة لغيره ، وصمم على ذلك . ومثله كمثل الناس الذين أطاعوا الشيطان ، وعاشوا الأسواء والضرر الذي يلحق الناس ، ولو سألنا الجهات التي اخترعت أنواع أسلحة التدمير الشامل عن سبب اختراعاتهم هذه ، لَمَـا وجدوا غير جواب واحد ، فيُخبرك حالُهم أنهم اخترعوه لقتل الناس من أطفال ونساء وشيوخ ، وتدمير ممتلكات البشر ، ولبث الرعب في نفوس الناس . فهل هذه من فطرة الله تعالى في خلقه ؟ لاشك : لا وألف لا ... وحاشا لله الذي ما بعث الأنبياء والمرسلين إلا لهداية الناس ، وإسعادهم في الدنيا والآخرة . ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) . وما هيأ مافي الأرض من خيرات ومن موارد طبيعية ، وما يسر لهم سبل تلك السعادة إلا لنيلها والاستفادة منها . وما سخر لهم البحر والنهر والهواء والجاذبية إلا لخدمتهم ولملءِ حياتهم بالطمأنينة والرخاء .
أما مانراه من فساد في معاملات الناس ، ومن حروب دائمة بين البشر ، ومن استعمار ، ومن هذا الازدهار في أسواق الكيد والمكر والكره ، والمؤامرات ... وغير ذلك مما في معجم الشر والأذى من عناوين في هذه الأسواق . إن هي إلا فساد الفطرة التي طوى الإنسانُ صفحاتِها المشرقاتِ الناصعاتِ ، لتمتلئ تلك الصفحات بقصص المآسي ، وعبارات الأحزان ، وموَّلات فراق الآباء والأمهات والأبناء والأرحام والجيران ، وفقد الديار ومراتع الصبا التي يتغنى بها الشعراء ، وتقام من أجلها الأمسيات ( الحزينة ) وربما في الليالي المظلمات .
أراد الله للناس الرحمة والسعادة ، ولكن أكثر الناس تنكبوا هذا الطريق وافتتحوا بشكل رسمي ومن وراء الكواليس ، ماتشتهيه أنفسُ أعداء فطرة الله رب العالمين .
هوامش :
*مادر: رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة، كان مضربَ الأمثال في شدة البخل واللؤم، فيقال: أبْخَلُ من مادر، أو: ألْأمُ من مادر . وأما حاتم الطائي وعرقوب فقصة كل منهما معروفة لدى الناس .
وسوم: العدد 973