من رسائل القراء إلى الكاتب فراس حج محمد (5) عن الشعر في يوم الشعر العالمي

هل تعتقد أن الشاعر قد تخلى اليوم عن مهمته التي كانت قديما؟

لا أظن أن للشاعر مهمة سوى المهمة الجمالية اللغوية، وكل تلك المهمات الاجتماعية والسياسية التي يريد المؤرخون الأدبيون أن يعطوها للشاعر ما هي إلا إقحام الشاعر في صلب المعمعة القبائلية في ذلك الوقت ذات الأغراض السياسية إجمالا واستمر هذا الإقحام إلى اليوم، وسيظل إلى أن ينتهي الشعراء وينفد الشعر.

باعتقادي الشخصي كان صوت الشاعر القديم مستلباً، من حسان بن ثابت إلى جرير والفرزدق والأخطل، وإلى حد ما المتنبي، وفي العصر الحديث أحمد شوقي والجواهري وشعراء المقاومة، كل هؤلاء كانوا خاضعين لشروط غير شعرية في المقام الأول.

كأنه يفهم من هذا الحديث أن الشاعر بلا رسالة؛ سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية؟

بالتأكيد لا، الشعراء الحقيقيون رسائلهم واضحة في مجمل ما كتبوا وما بنوه من مشاريع ثقافية، لكن الخطر الذي هدد الشعر قديما وما زال يهدده هو أن يتحول الشاعر إلى بوق سياسي أو أداة إصلاح ديني أو اجتماعي. الشاعر ليس من مهامه أن يكون فيلسوفا أو مصلحا اجتماعيا أو مبشرا دينيا إنما هو صانعٌ لغوي وجماليّ، يعمل على المادة الفطرية قبل أن تتلون بالفلسفة أو بالدين أو بالأخلاق أو بالسياسة، كل ما يعنيه الشاعر في شعره اللغة وما فيها من طاقات جمالية وأساليب تعبيرية. لكنه لا يستطيع فعل ذلك دون أن يكون للغة موضوعها المطلق، فيتحول هذا الموضوع بين يديه إلى موضوع شعري لغوي جمالي أولا وأخيراً.

ستكون هذه المادة الشعرية التي تحمل كل هذه الصفات مادة صالحة للسياسي وللمبشر وللمصلح الاجتماعي، لأن الشاعر يلتقي مع كل هؤلاء بالجمال، وجمال الشاعر فطري غير محدود وغير خاضع للقوالب السياسية والاجتماعية والدينية، أما جمال هؤلاء فهو جمال خاضع لشروط الحقول التي يعملون فيها.

الشاعر بطبيعة اتصاله بالعالم العلويّ أو ما بين العلوي والأرضي ينهل من منبع رؤيوي لا يفلح الآخرون أن يصلوا إليه، ولن يتذوقوا طعم الجمال إلا بلغة الشعر وجمالياته المطلقة. فالشعراء دائما أكبر من الفلاسفة والمفكرين وأدنى قليلا من الأنبياء بطبيعة ما يأتون به وما ينتجونه من رؤى.

كأنك تريد أن تقول إن الشاعر نبيّ؟

شغلتني هذه الفكرة طويلا وطويلا جدا، ثمة ما هو متشابه بين النبي والشاعر، ومن طبيعة دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ازداد الالتباس أكثر. النفي أحيانا- وفي حالة الشعر والقرآن- يدعو المرء لأن يفكر مليا؛ لماذا كل هذا النفي المتعلق بالشعر وعلاقته بالقرآن الكريم؟ القرآن نفسه له مميزات شعرية، لكنها ليس شعرا خالصا ولا نثرا خالصا، نص جامع. طبيعة النص القرآني تزيد من احتماليات أن كل شاعر يحمل رؤى نبي أو لعله نبي بمعنى ما، وهذا ما خرج به السياق العربي الثقافي عندما أطلق على المتنبي هذه الصفة، لتميزه عن الشعراء الآخرين وعن الأنبياء كذلك. ورسخ هذه الفكرة فيما بعد الشاعر أبو العلاء المعري عندما شرح ديوان المتنبي وسماه "معجز أحمد"، ولا ريب عندي من قريب أو بعيد أن المعري الذكي لم يغب عنه القرآن الكريم والنبي محمد الذي هو أيضا "اسمه أحمد"، ليلتبس معجز أحمد الشاعر بمعجز أحمد النبي- عليه السلام- كأن هذا الالتباس حاضر في وعي المعري أيضا، لكنه لم يستطع أن يحسمه أو يقوله علانية، يكفيه ما رميَ به من زندقة وكفر وإلحاد.

وأنت ترى الشاعر بهذا المنظور، ماذا يعني لك بيت الشعر كمؤسسة إذاً؟

بيوت الشعر في العالم لا تصنع شعرا ولا تخلق شاعراً، إنما هي مؤسسة إدارية تقوم على جعل الشعر خبزا يوميا- أو هكذا يجب أن يكون- وحديثا متداولا في الإعلام وفي الصحف وفي الفعاليات والمهرجانات التي تعمل على ترتيبها تلك البيوت.

أظن أننا بحاجة إلى وجود هذه البيوت وتفعيل دورها من أجل تهيئة البيئة المناسبة لتحطيم كل ما يحول بين الناس وبين الشعر، وخاصة الفنون الأخرى التي وقفت سدا منيعا في وجه الشعر وخنقت صوته، ودفعت بالشعراء إلى الصمت أو الرحيل عن عوالمهم إلى عوالم كتابية أخرى، لكنهم للأسف لم يفلحوا فيها. فلم أستطع أن أقول إن هناك شاعرا حقيقيا أصبح روائيا مشهوراً. ومن برز من الشعراء في عالم الرواية تنازل عن الشعر وعن حقيقة كونه شاعراً، كما هو الحال- مثلاً- مع إبراهيم نصر الله الذي كسب الكثير من الرواية لكنه ترك الشعر وراءه، الشعر كمفهوم أساسي في التجربة الكتابية وكمشروع ثقافي، وليس كمؤلفات فقط. ولهذا حديث سابق وكتابة مفصلة.

في فلسطين، بيت الشعر كان من أوائل بيوت الشعر في المنطقة العربية، لكن ثمة عوامل غير ثقافية وصراعات (بين ثقافية) وشللية قضت عليه، وألحقته بوزارة الثقافة، وها هو الآن مؤسسة ورقية دون رئيس ولا وجود فعلي له، ولم يعد أحد يذكره في الوسط الثقافي الرسمي أو غير الرسمي. من المحزن أن يموت بيت الشعر في فلسطين، وأرجو من وزير الثقافة أن يأخذ مسألة إحياء هذا البيت على نحو جدّي، ليعيد ترميمه وهيكلته لعله يعود إلى العمل من جديد.

كم بظنك سينجح هذا الأمر؟ وما معوقات ذلك؟

إن صدقت النوايا سينجح. كل عمل مهما كبر هو متعلق بالإرادة، عندنا في فلسطين تصر وزارة الثقافة على أن تقيم سنويا مهرجانات روائية وفنية كمهرجان رام الله للرقص المعاصر، لكنها لم تلتفت إلى بيت الشعر ولم تعمل على إحيائه منذ أعلنت وفاته. لعل ذلك متعلق بالوزير نفسه والطاقم العامل معه، فهم جميعا لا يفكرون بالشعر، ولا يقدرون الشعراء الحاليين من الجليل الجديد التقدير اللازم، فكأنهم في العمق يرون أن الشعر الفلسطيني مات وتم دفنه مع محمود درويش، أضف إلى أن الوزير ذاته- ككل وزراء الثقافة السابقين في فلسطين- ليس معنيا بالشعر، فهو روائي أولا وأخيرا، ولا أعتقد أن ينظر بإيجابية إلى حركة الشعر الحالية في فلسطين. فأكبر عائق لذلك هو هذا الإحساس بعدم جدوى تفعيل بيت الشعر، فلا شعر ولا شعراء، فلماذا يقوم بيت الشعر من مرقده؟ هذه حالة محبطة على أي حال، وأرجو أن أكون مخطئاً في هذه النظرة.

هذا التفكير المشوش سيؤثر في مجمل الحركة الثقافية على المدى البعيد، ويعمل على ازدياد تغريب الشعر عن الجمهور بدلا من جعله في بؤرة العمل الثقافي. لذلك لا بد من أن ينهض بيت الشعر ويعود للعمل كما ينبغي له أن يعمل، بخطط مدروسة تعمل على استنهاض كل الطاقات الشعرية في فلسطين وإظهارها إلى العلن. فبيت الشعر في فلسطين ضرورة ثقافية وفلسفية وإبداعية قصوى لا بد منها.

ما رأيك في الحركة الشعرية الفلسطينية؟ وكيف تقرأ من موقع الناقد والشاعر هذه الحركة؟

لا يتعطل الشعر في حياة أية أمة أو شعب، وما قيل عن العرب قديما "إن العرب لا تترك الشعر حتى تترك الإبل حنينها" يصدق على كل أمة، فالشعراء كثيرون وفي تطور مستمر وفي توالد، ومن مدارس متنوعة، ولقد أدهشني عندما اشتركت قبل سنوات في مهرجان الشعر العالمي الذي أقيم في فلسطين بالتوافق مع شعراء من مناطق في العالم والوطن العربي- أدهشني ذلك الكم الهائل من الشعراء الممتازين من شتى الأعمار والتجارب. والشاعر الفلسطيني موجود عالميا وعربيا ومحليا. وثمة مؤلفات شعرية وأخرى مؤلفات تتحدث عن الشعر تصدر كل عام، ولها قراؤها ومتابعوها. الشعر بخير لكنه يعيش في الظل بعيدا عن عيون "الكاميرا". علينا أن نعمل أكثر ليعم نوره ليراه الجميع، وليتمتعوا بمباهجه الجمالية.

بمناسبة يوم الشعر العالمي ما المتوقع من الشاعر أن يفعل؟

الشعر غير مرتبط بيوم، هو حالة يعيشها الشاعر الحقيقي طوال حياته، ليرى من خلالها هذا الوجود، فلا يمكن لأحد أن يفهم الوجود دون عين الشعر وقلب الشاعر. وأما يوم الشعر العالمي فهو ليس أكثر من مناسبة نؤكد فيها أهمية وجود الشعر في حياة البشر، فلا تتوقع من الشاعر أن يكون شاعرا في يوم الشعر ويعاد إلى خزانته في الأيام الأخرى.

لقد جاء هذا اليوم، بالمناسبة، بمبادرة من ثلاثة شعراء فلسطينيين كبار فدوى طوقان وعز الدين المناصرة ومحمود درويش، إذ وجهوا عام 1997 نداء إلى مدير عام اليونسكو طالبوه بضرورة أن يكون هناك يوم عالمي للشعر، وبعد عامين- 1999- خلال الدورة الثلاثين لانعقاد اليونسكو تم إعلان عن يوم 21 آذار يوما عالميا للشعر.

اجتمعت في هذا التاريخ (21 آذار) عدة مناسبات، من بينها عيد الأم والشعر والربيع وعيد النيروز عند الفرس. ما سبب هذا الاقتران بين الأم وبين الشعر مثلا، أو بين الشعر وبين الربيع وما العلاقة بين العيد وبين الشعر؟

نحن نحب فلسفة الأمور لا أعتقد أن هناك سببا وجيها ومنطقيا بين المعنيين، إلا كنوع من إيجاد الروابط التي تبدو منطقية لنا، أو إننا نوهم أنفسنا بأنها منطقية، أظن أن من سنّ هذا اليوم لم يكن يفكر لا بالربيع ولا بالأم، ولا بعيد النيروز، فلماذا نفترض أن هناك علاقة ما حتمية بينها وبين الشعر، ربما هي محض صدفة لا أكثر، ففي هذا اليوم أيضا حدثت معركة الكرامة وفيه أيضا سنت الأمم المتحدة يوما للتضامن مع المصابين بمتلازمة داون. هل نجتهد لنوجد علاقة بين هذه المتلازمة وبين الشعر او بين الشعر ومعركة الكرامة؟

لعل هذا الوهم يدعوني أحياناً لأعتقد أنها ليست صدفة أن يكون هذا اليوم هو اليوم العالمي للشعر، وبإمكاني مثلا أن أقول- كما قال غيري- دون أن يبدو هناك خلل منطقي في هذا القول:

"في هذا اليوم يتساوى الليل والنهار ويبدأ الربيع، وفيه عيد النيروز وعيد الأم، وكلها تحمل رمزية الشعر الذي وجد الشعر من أجل تحقيقها، وتتلخص في أمرين عظيمين: التجدد والجمال، بما يفيض من هذين المعنيين من معاني الفرح والتوالد والحياة والحيوية والرغبة، كأن الشعر ربيع اللغة وأمها وعيدها وفرحة احتفالاتها، ويحدث التوازن بين مكونات هذه الحياة، ففي عمق الشعر دائما وفي ضمير الشاعر ذلك العدل الذي يطمح إليه لتتحقق المساواة بين الناس، كما يتساوى الليل والنهار، ويقتسمان ساعات اليوم ودقائقه بالتساوي، فالمساواة التي يطمح إليها الشعر ليست أمرا طارئا. إنما هي على الدوام مشروع الشاعر القائم على العدل والمساواة والفرح".

يبدو هذا منطقي جدا، لكنني أعتقد أنه ليس أكثر من محاولة التوليف بين عناصر وجدت مصادفة ليبدو بينها نوع من الانسجام. فلا يعدو أن يكون كلاما مزخرفا وإنشائيا لا حقيقة له، كتبت شبيها له فيما سبق، وكتب مثله غيري أيضاً.

هل تعتقد أن الشعر يصلح العالم كما يقول هؤلاء، وكما يظهر في الكلام السابق؟

أي هراء هذا؟ لا يصلح العالم لا بالشعر ولا بغيره من الفنون، إنما هي رومانسية حالمة خيالية ليس لها أي واقع، فالشعراء أغلبهم مدمنو خمر، ومتمردون على الأنظمة الكونية، ويلاحقون النساء، وليس لهم شغل إلا صنعة الوهم، فكيف سيغير هؤلاء العالم؟ إنهم في أحسن حالاتهم يصنعون كلاما جميلا يدغدغ المشاعر، فإذا النصوص الدينية لم تغير العالم، فهل سيغيره الشعر؟ هنا أنا لا أتحدث عن جمالية الشعر وخدمته للغة. إنما علينا أن نتواضع في نظرتنا للشعر وحقيقة دوره.

الشعراء ليسوا رسلاً ولا مصلحين اجتماعيين، ولا سياسيين ولا قادة عسكريين، ولا حتى فلاسفة ومفكرين. فالشعراء في أحسن صورة لهم ثرثارون بلطف محبب، أقرب إلى المهرجين منهم إلى غيرهم. والشيء بالشيء يذكر، الشعراء لم يكونوا في المقدمة في أي عصر من العصور، إنما كانوا في الغالب إما هامشيين أو تابعين للسلطة أو مداحين دجالين. فهل سيأتي من هؤلاء إصلاح وتغيير؟ امرئ القيس كان مخمورا دائما، والحطيأة كان هجاء لئيما، وابن الرومي كان متشائما على الدوام، وأبو نواس كان يلاط به من معلمه ومولع بالتغزل بالفتيان وغارق في حانات الخمر، والمتنبي كان سلطوياً وأحمد شوقي والجواهري ودرويش، إلى آخره، ولا أظن أنني أجافي الحقيقة لو قلت إن في حياة كل شاعر عيبا كبيرا قادحا في مهمته الرؤيوية أو نحن الذين نتوقع أن يكون لهم هذه المهمة كما توهمت في بعض الكلام السابق.

أنا أحب الشعر، ولكن دون أن أقوم بأسطرته، من المهمّ أن يوضع الشعراء وشعرهم في قالبهم الحقيقي ليأخذوا ما يستحقون من حجم، الشعر مهم في حياة اللغة وإن صنعه نرجسيون وبعض المرضى النفسيين من الشعراء، مع التسليم بأن بعض هؤلاء كان أكبر من الفلاسفة والمفكرين، لكنهم قليلون ونادرون. فالصورة العامة للشعر والشعراء ليست هي الصورة المأمولة المرسومة في مخيلاتنا عن الشعر والشعراء. كم كنت أتمنى لو أن الشعراء كما رسمتهم في مخيلتي قبل أن أتعرف على حياتهم، لقد صدمتني حقيقة حياتهم وما عاشوه وما يتكشف من أسرارهم ومثالبهم وعيوبهم الروحية والسلوكية.

وسوم: العدد 973