نواطير تونس وثعالب سعيّد: نُذُر ما قبل الانفجار

الرئيس التونسي قيس سعيّد منح نفسه حرّية تهنئة الشعب التونسي بعيد الاستقلال في هزيع أخير من الليل، وكأنه (حسب خبثاء لا لوم عليهم، والحقّ يُقال) كان، قبل توجيه الخطاب، قد استمع إلى «أهل الهوى يا ليل/ فاتوا مضاجعهم/ واتجمعوا يا ليل/ صحبة وأنا معهم»؛ مع اعتذار، لا يخفى، من رائعة بيرم… التونسي. ثمّ أجاز لنفسه، تالياً، تزوير تاريخ الطاولة التي أطلّ من خلفها، زاعماً أنها ذاتها التي شهدت توقيع معاهدة باردو سنة 1881 وتمكين فرنسا من احتلال تونس. وأخيراً، وليس آخراً، اقتبس حكاية لافونتين الشهيرة عن الغراب والثعلب، غامزاً من قناة الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة ورئيس وزرائه محمد مزالي، رغم أنّ أيّ سياق، قريب أو بعيد، لا يسوّغ الاقتباس.

ولماذا لا يبيح سعيّد لنفسه هذه «الحرّيات»، أو بالأحرى ما الذي يمنعه من انتهاك توقيتات اليوم وتواريخ الطاولات وخرافات لافونتين، إذا كان ويظلّ فارس القرارات الانقلابية التعسفية الغوغائية التي استفاقت عليها تونس يوم 23 تموز (يوليو) الماضي؛ وكان، ويظلّ، تجسيداً سوريالياً مفتوحاً للإجراء ونقيضه في آن معاً، وللواقع المرير الشاق الذي يُبكي وتمثيلاته الكاريكاتورية التي لا تُضحك لأنها بدورها تُبكي؟ وما الذي كان سيمنعه من تحريف بيت المتنبي الشهير، إلى «نامتْ نواطيرُ تونس عَنْ ثعالبها/ فقد بَشِمْنَ وما تفنى العناقيدُ»، إذا كان يعتقد أنّ غالبية نواطير البلد تغطّ في نوم عميق، أو انقلبت إلى نسخة متحوّرة من رئيسة الوزراء التي لا حول لها ولا طول في حضرة قرطاج؟

و»النواطير» هنا يصحّ أن تبدأ من نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، الذي لم يعد «ينطر» من حقوق الشغيلة والكادحين سوى تلقيم التصريحات الجوفاء واللغة الخشبية؛ متناسياً أنه يترأس منظمة عريقة عالية الشأن مشرّفة الكفاح، لا يُغفل التاريخ انتسابها إلى فرحات حشاد ومحمد الفاضل بن عاشور، وفي عدادها ينتظم أكثر من نصف مليون عامل في مختلف قطاعات الإنتاج العامة والخاصة، وسجلّها يشهد على نضالات ضدّ الاحتلال الفرنسي، وفي أزمنة الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وعضو «رباعي الحوار الوطني» الحائز على جائزة نوبل للسلام سنة 2015.

لقد بدأ الطبوبي من اعتبار إجراءات سعيّد متماشية مع «الفصل 80 من الدستور توقّياً من الخطر الداهم وسعياً إلى إرجاع السير العادي لدواليب الدولة»؛ ومرّ بإنذار الرئاسة حول «إهدار فرص تغيير وإصلاح البلاد تجلى في عدم مكافحة الفساد بوضوح وشفافية خاصة في ما يتعلق بمعالجة الترسانة التشريعية والقانونية»؛ وتوعّد بأنّ الاتحاد لن يقبل حكومة غير خاضعة للرقابة البرلمانية؛ وانتهى، وينتهي، إلى الصمت المطبق عن حكومة في ظلّ دستور معطّل وبرلمان مجمّد ورئيس يسرح ويمرح…

«النواطير» تشمل، أيضاً، تلك اللجان الشبحية التي سيعهد إليها سعيّد بدراسة خلاصات المهزلة المسماة «استشارة إلكترونية» شعبية، وسيكلفها بكتابة مشروع دستور جديد؛ وهؤلاء ليسوا شهود زور صارخي الخداع والتلفيق، فحسب؛ بل هم أساساً محض استنساخات، أكثر تشوّهاً ربما، عن غالبية شاغلات وشاغلي الحقائب الوزارية في حكومة نجلاء مودن. ولا يزيد في ابتذال المشهد أكثر من تلك «الإنتلجنسيا» التونسية التي تقلّد نظائرها السيساوية في مصر، فتجترّ النظرية الخرقاء القائلة باتقاء شرّ الإسلاميين عن طريق السير في ركاب الاستبداد؛ وكما كانت أخطاء محمد مرسي وبطانته في مصر ذريعة تغطي التصفيق لانقلاب السيسي، فإنّ أخطاء «النهضة» ورهط الأحزاب التي تكاثرت كالفطر بعد 2011 هي الغطاء لتأييد انقلاب سعيّد.

وفي انتظار اقتباس من لافونتين، أو تزييف طاولة، أو إطلالة «صبّاحية»… ليس من المؤكد أنّ «أهل الهوى» من أبناء تونس سوف يتمسكون طويلاً بحبل الصبر، قبل أن تخرج انفجاراتهم عن كلّ طور، فتتكاثر الأخطار الوطنية الكبرى والانقسامات الأهلية العظمى.