الثورة السوريّة جلبت على أهلها الدمار
كثيراً ما يجد الأفراد، أو تجد الشعوب، نفسها بين خيارين: إما الخضوع للطاغية بمقابل البقاء على قيد الحياة، بل البقاء على حياة، أيّ حياة! كالذين قال الله تعالى فيهم: (ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة)، وإما الثورة على الظلم والهوان، وهذا يعرّضهم لمحنة شديدة، من سجن وتعذيب وقتل، حتى يقول بعضهم: "كنّا عايشين"، صحيح أننا كنا كل يوم نخسر من أموالنا ما يدخل في حساب الطاغية في بعض المصارف العالمية، وصحيح أننا كنا نرى أصدقاءنا وأقاربنا يُتَخطّفون ويدخلون السجون وقد يُعدمون، وصحيح أننا كنا نرى الطاغية يُقصي شريعة ربنا عن المجتمع والاقتصاد والسياسة، وصحيح أن أحدنا كان لا يملك أن يقول كلمة الحق وأن يعترض على طغيان الطاغية... ولكننا "كنا عايشين".. كنا عايشين عيشة تليق بغير الإنسان.
لقد حدّثنا القرآن الكريم عن قوم موسى الذين كان فرعون يسومهم سوء العذاب... فلما آمنوا بموسى، عليه السلام، جدّد فرعون عليهم العذاب فقالوا: لقد أصابنا الأذى من فرعون، قبل أن تأتينا يا موسى بالرسالة، وبعد أن جئتنا، وها أنت ذا ترى ما يُصيبنا من الأذى. وردّ عليهم نبيّ الله موسى: (عسى ربّكم أن يُهلِكَ عدوّكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظرَ كيف تعملون). أي يجعلكم خلفاء فيها من بعد هلاك فرعون وشيعته. [الأسطر الأخيرة ملخصة من تفسير الوسيط لشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي].
وفي الظلال: "(قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا). إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرّم! أوذينا قبل مجيئك، وما تغيّر شيء بمجيئك، وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية".
ويقول سيد قطب رحمه الله: "بعض النفوس الضعيفة يُخيّل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تُطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة مفزعة قلقة، تخاف من ظلّها... هؤلاء الأذلاء يؤدّون ضريبةً أفدح من تكاليف الكرامة، يؤدّونها من نفوسهم، ومن أقدارهم، ومن سُمعتهم، ومن اطمئنانهم... وكثيراً ما يؤدّونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون".
نعم، قد يَخدع الجبناءُ أنفسهم حين يكيّفون أنفسهم على تقبّل الذل والخنوع، ويتعلّلون بأنهم يحققون بعض المكاسب، ويحقنون دماءهم ودماء ذويهم، ويتجاهلون أن الطاغية يعمّق جذوره، ويُمدُّ فساده وإفساده، ويثبّت أعوانه وأذنابه... وكلما تأخر الشعب عن الثورة وجد أن الركام أمامه يزداد، وأن الظلم يتفاقم، وأن الفسق والفجور ينخر في جسم المجتمع، وأن الإحساس بالكرامة لدى كثير من الناس يتضاءل.
لذلك كانت دعوات الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، ودعوات المصلحين الهُداة من بعدهم، تحرّك الماء الآسن لتجرفه، وتصب في حياة الناس العذب الفرات. ويكون لذلك ثمن، كالعذاب الذي تلقّاه الأنبياء وأصحابهم، وكالشهداء الذين قدّموا أرواحهم في سبيل الله، حتى طهرت الأرض من رجس الكفر والفسوق والعصيان.
إن العذاب الذي لقيه بلال وعمّار وسميّة بعد إسلامهم كان أشد مما كانوا يلقونه وهم على الكفر، لكن السعادة والرضا والطمأنينة التي ملأت قلوبهم، يوم آمنوا، تستحق كل ما يُبذل في سبيلها. إنهم الشموع التي أضاءت الطريق لمن بعدهم. بل إن من الصحابة من كان في غاية الرفاهية، وهو في الجاهلية، ثم ذاق مُرّ العذاب يوم أن آمن، كالذي كان عليه مصعب بن عمير، فهل كان خيار مصعب خاطئاً؟!.
دفعوا ضريبتهم للدين من دمهم والناسُ تَحسَبُ نصرَ الدين مجّانا
ولا نامت أعين الجبناء..
وسوم: العدد 975