لقطات من معاناة معتقل -18-
تحت عنوان "من تدمر إلى هارفارد" كتب الدكتور براء السراج، الأستاذ في قسم زراعة الأعضاء في كلية الطب في شيكاغو، مذكراته عن سجن تدمر. ونسجّل هنا بعض فقرات من مذكراته الغنية، في حلقات قصيرة متتابعة:
5 كانون الثاني 1993م - النقل إلى سجن صيدنايا:
ساقوني عبر الباحات.. الثالثة.. أمرّ أمام المهجع 13.. 15.. الباحة الأولى.. مهجع 4.. أحسُّ بالأضواء الصفراء من تحت طماشتي.. شريط من الذكريات يمر من أمامي مع هدوء هذا الفجر البارد. أنا على يقين أن صديقي جلال يقظ يراقب ما يدور في الباحة. في باحة الذاتية أبقونا في غرفةٍ جالسين على أرض إسمنتية قارسة البرد ربما لثلاثة ساعات، وشرطي يصيح بين الفينة والأخرى: "وطّي راسك ولا".. "بدّي ساوي هيك وهيك بأمك وأختك يا أخو الـ... ويا ابن الـ..."...
مع بزوغ الفجر ركبنا سيارة السجن ذات الشبابيك المقضبة. كان الهواء الكانوني القارس يعصف بنا. كنا خمسة: اثنان على الحمالات، وثلاثة مقيدين أيديهم إلى بعضهم بعضاً في وضعية مثلث وجوهنا لداخله لا تسمح لأي منا أن يقي نفسه شر البرد.. توقفت السيارة وقفات طويلة حتى تمنيت لو لم أخرج من تدمر.. شاهدت من زاوية طماشتي أعمدة تدمر الأثرية...
تداركني الشباب المُعتقَلين في صيدنايا مباشرة بالمال، فعند الصباح دعاني الأخ محمد، طالب بكالوريا من حماة، لكأس شاي وتعارف، وكان قد جهّز كيساً فيه كل الاحتياجات الأساسية للسجين مع ألف ليرة أصرّ عليّ أن آخذها، ثم تتابع المال من أبو مطيع، طالب بكالوريا من عائلة غنية من حلب، ومن ميسّر، طالب بكالوريا من حماة، ومن آخرين من إدلب. كان تكافلاً اجتماعياً رائعاً، حتى إن رجلاً قديراً من بيروت، الأستاذ أبو أسامة، قال لي يوماً: براء، إن لم تلتقِ أهلك فنحن أهلك، واعتبرني رصيدك المالي الدائم وبأي وقت. فيما بعد تكفّل ميسر بالمال بلا توقّف.
كانت نتيجة الانتقال من تدمر إلى صيدنايا في برد كانون سعالاً لا ينقطع، وعندما تمّ عرضي على طبيب الجناح، طبيب من حلب: أبو أحمد، كان علي أن آخذ دواءً لمدة شهر ليتوقف السعال. في طريق عودتي من عند أبي أحمد رافقني طريف، طالب بكالوريا من حلب، وقد كان أستاذي في اللغة الفرنسية فيما بعد، إلى غرفتي وقد طلب مني أن أنتظره قليلاً ليعود بمعطف فرنسي جميل رجاني أن أقبله هديةً.
وسوم: العدد 986