أسئلة عن كتاب «ثلاث سنوات في الكويت» لطبيب سوفييتي وأمور أخرى
تشكل مذكرات الأطباء كنزا معرفيا هائلاً، سواء من الناحية المهنية أو الاجتماعية أو السياسية، وهي أكثر عمقاً من مذكرات السياسيين التي ترصد غالباً سطح الأحداث، أما يوميات ومذكرات الأطباء بحكم مهنتهم فهي تقدم صورة لعمق الجسد.. لأمراضه، لنقاط ضعفه، ونقاط قوته، للناس في أفراحهم وأحزانهم ولهواجسهم المعيشية والوجودية.
لكن للأسف لم يلتفت الباحثون لهذه المذكرات، وعددها صار كبيراً، ربما بسبب انشغالهم باليومي والسياسي المباشر، ومثال ذلك أن مذكرات الطبيب والسياسي السوري بشير العظمة ضمت شقين، طبيا وسياسيا.
تمت مناقشة الجانب السياسي في المذكرات طويلا، في حين أهمل جانبها الطبي الأكثر أهمية. أهمل حتى في عروض الكتاب التي نشرت في الصحف!
من ضمن مذكرات الأطباء التي أنجزت قراءتها كتاب «ثلاث سنوات في الكويت: مذكرات طبيب العظام السوفييتي البروفيسور ف. ف تروبنيكوف (1973-1970)» تقع هذه المذكرات في 405 صفحات، وقام بترجمة الكتاب محمد الأنصاري وناصر الكندري، وصدر عن مركز البحوث والدراسات الكويتية. في مقدمة الكتاب كتب رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية عبدالله الغنيم: «كان مركز البحوث والدراسات الكويتية ولا يزال حريصا على جمع كل ما هو متاح من كتابات أجنبية قديمة تناولت دولة الكويت تاريخا وجغرافية وحضارة وشعبا، وانتقاء الجيد منها لترجمته وإعداده للنشر في صورة تليق بقيمة الكتاب، حيث ترتفع هذه القيمة وفقا لقدم الكتاب ومعرفة الكاتب الجيدة بالكويت، سواء لتخصصه الدقيق وصلته بالموضوع، أو لإقامته فيها ومعايشته أهلها، ما يضفي على الكتاب موضوعية ومصداقية وثقلا ورصانة». الكتاب فريد من نوعه فالمشرق العربي ومنذ منتصف القرن التاسع عشر اعتاد على نمط آخر من الأطباء الأجانب، هم الأطباء الملحقون بالبعثات التبشيرية الغربية، وأشهرها البعثة الأمريكية البروتستانتية، التي استقرت في بيروت ومن أشهر أطبائها فانديك الأمريكي، التي انتهت إلى إقامة كلية الطب البروتستانتية في بيروت، التي أطلق عليها الجامعة الأمريكية في ما بعد.
قام التبشير الديني الغربي على ثلاثة أعمدة: رجل الدين، والمعلم، والطبيب الذي يعالج آلام البشرية المعذبة. وقد يندمج الثلاثة في شخص واحد، فنجد أن الطبيب هو رجل دين ومعلم في الوقت نفسه، كما في شخصية المبشر فانديك سابق الذكر. لكن هذه المذكرات النادرة تطرح تنويعاً على الطبيب الغربي المبشر لم يعرفه العالم العربي كثيراً، فطبيب العظام السوفييتي جاء بطلب رسمي من الحكومة الكويتية، وفي مهمة رسمية من الحكومة السوفييتية، وقد كان من الأطباء المهمين في بلده عشية إيفاده للكويت، وربما يمكن إضافة هذه المذكرات لتاريخ الاستشراق الروسي، وهو استشراق اختلف في تاريخه وتفاصيله عن الاستشراق الغربي، ولم تتم دراسته بالشكل الكافي بعد.
خلال قراءة هذه المذكرات طرحت على نفسي عدة تساؤلات، أول أمر أثار تساؤلي واستغرابي، لما لم يتم إيفاد طبيب مسلم من أطباء الجمهوريات السوفييتية المسلمة إلى الكويت؟ منطقيا الطبيب المسلم أقدر على الاندماج في المجتمع الكويتي المسلم، وهو أقدر على فهم عاداته وتقاليده. وكان سيبدو كأحد أبنائه، هل يعقل أن لا يتوفر الاتحاد السوفييتي السابق بعدد مسلميه الكبير على جراح عظام مسلم؟ إن كان ذلك فهي كارثة، أم أنها العقلية السائدة في ذلك الوقت التي تزدري الأديان وتُقزم دور الدين في المجتمع؟ وهذه كارثة شاهدنا نتائجها على الأرض بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، أم أن سبب ذلك يعود إلى عدم ثقة القائمين على الأمور في الاتحاد السوفييتي إلا بالعرق السلافي؟ فالطبيب السوفييتي كان من أوكرانيا.
التساؤل الثاني طبي ويخص ما يسمى سر المهنة. هنا بصفتي طبيبا يتعاطى مهنة الكتابة طرحت على نفسي هذا السؤال الأخلاقي. نشر الطبيب السوفييتي أسماء مرضاه كاملة وبعضهم من الأسرة الحاكمة في الكويت، ونشر بعضاً من أمراضهم وملفاتهم الطبيبة. ومن المعلوم أن قسم أبقراط يشكل مرجعاً لأخلاقيات مهنة الطب في كل أنحاء العالم، وهو ينص في أحد بنوده على عدم إفشاء أسرار المرضى (السر الطبي) ورغم أن الطبيب السوفييتي قد فعل ذلك بعد سنوات طويلة، إلا أني أتساءل هل تجيز أخلاقيات مهنة الطب هذا الأمر. ألا يعد هذا الأمر إخلالاً بقسم أبقراط بإفشاء سر المهنة؟ مع العلم أن ما يسمى «سر المهنة» في الطب لا يسقط بالتقادم الزمني، كما يحدث في الوثائق الرسمية التي تتيحها الدول للعامة بعد مضي سنوات. «سر المهنة» الطبي أبدي ولا تبيح القوانين الإخلال به إلا في حالات محددة بدقة، وغالبا بناء على طلب قضائي لأمر بالغ الخطورة، أو لوجود سبب قاهر له علاقة بسلامة المجتمع، كما في حالات الأوبئة أو حالات تخص أمن المجتمع وسلامته.
التساؤل الثالث يخص الترجمة فهي لم تكن موفقة في ما يخص المصطلحات الطبية. وكان يمكن الاستعانة بطبيب ممارس لضبط المصطلح الطبي بدقة. ولم تقتصر عدم دقة الترجمة على المصطلحات الطبيبة، فالمترجم يسمي مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، الذين كانت تتولى الكويت، في تلك الفترة، علاج إصابات بعض منهم، وعلى نفقتها وهذه صفحة مشرقة في تاريخ الكويت، لا يمحوها تقادم الزمان، أو تبدل الأحوال، يسمي المترجم المقاتل الفلسطيني أول مرة «فدائي» وهو الاسم الصحيح، لكن بعد ذلك يتحول إلى كلمة «كوموندوس»!
يسجل الكاتب بعض قصص الفدائيين الذين عالجهم في الكويت من زاوية إنسانية بتعاطف واضح، حيث كانت السياسة السوفييتية الرسمية والشعبية تتبنى القضية الفلسطينية، وهذه صفحة مشرقة من تاريخ الاتحاد السوفييتي أيضاً. التساؤل الرابع. هل حقاً كان هذا الطبيب رغم مهنيته العالية وتعاطفه مع العرب والكويت، هل كان مجرد طبيب عظام، أم أن له دوراً آخر يؤديه في الكويت؟ من الواضح من خلال التقارير التفصيلية، التي وضعها في كتابه عن واقع القطاع الصحي الكويتي، وسرده تفاصيل إحصائية دقيقة عن صناعة النفط والمجتمع الكويتي أنه كان يكتب بشكل منهجي تقريراً ليقدمه لجهة رسمية في الاتحاد السوفييتي. فالتفاصيل والأرقام الدقيقة ووصف بنية المؤسسات ليست من الأمور التي يهتم بها الطبيب عادة، ولا تدخل صناعة النفط في الكويت ضمن اختصاصه. مما لا شك فيه أن الطبيب السوفييتي كان يؤدي مهمة أخرى لها علاقة بجمع المعلومات وتنتهي في جهاز استخباراتي، وهذا ربما يفسر عدم إرسال طبيب مسلم. كما أنه يلقي فكرة عن الدور الذي لعبه ويلعبه التقنيون الأجانب من كل الجنسيات في بلادنا. ويدحض خرافة التقني الصرف، فكل مهني أجنبي في بلادنا له وجه آخر سياسي أو استخباراتي أو حاصد معلومات. وقد حولته هذه المهمة إلى مؤرخ من نوع ما، فهو يرصد أسوار مدينة الكويت وتطورها العمراني وأهم من ذلك تاريخ المؤسسات الطبية فيها «أثناء إقامتي في الكويت كان الطبيب السوري مأمون الماخايني (وهذه من أخطاء الترجمة فكنية الطبيب هي المهايني وهي من عوائل دمشق المعروفة) يدير المشفى، وكان يعمل في المشفى منذ عام 1972». وفي معترضة صغيرة لا بد أن نلاحظ أن للأطباء السوريين دوراً بارزاً في نشأة الجهاز الصحي في دول الخليج، خاصة العربية السعودية والكويت. وهذا حديث سنفرد له مساحة خاصة في مكان آخر في المستقبل. ثم يصف الهيكل الإداري للمشفى وعدد أسرته وأقسامه العلاجية «قسم العظام وعلاج الإصابات 200 سرير وقسم العيون 80 سريرا».
التساؤلات الأخيرة التي بقيت في ذهني لا تخص الكتاب بالتحديد، إنما حرضها الكتاب، أول تساؤل ظهر أثناء الحديث عن الكويت قبل عصر النفط. سألت نفسي ما الذي يدفع الإنسان للتشبث بمسقط رأسه، رغم انعدام شروط الحياة، فالكويت قبل النفط بقعة قاحلة تفتقر أبسط مقومات الحياة، ومع ذلك تشبث أهلها بها، مع العلم أنه حتى مياه الشرب يتم إحضارها من شط العرب الذي يبعد حوالي خمسين كيلومتراً. والسؤال البسيط لما لم يرحلوا إلى جوار شط العرب، ويبنوا حياتهم قرب مصادر المياه. وهذا سؤال يطرحه على نفسه كل سوري بقي في سوريا ولم يغادرها! هل هناك شيء بيولوجي لم يكتشفه العلم بعد يشد الإنسان إلى أرض المولد؟
أما الأمر الأخير فهو يخص وضع الأطباء السوريين المنتشرين في كل أنحاء المعمورة، جماعات وفرادى، لو أن كل واحد كتب تجربته في البلد الذي يعيش فيه مع التفاصيل الاجتماعية والاقتصادية وحياة الناس ألا يكون لدينا موسوعة هائلة عن العالم المعاصر؟ وأنا أتوجه بنداء لهم أن يكتبوا..
وسوم: العدد 989