الرد على دعوة البعض إلى إعادة تأويل القرآن الكريم ليوافق العصر
كما أنه لا يوجد في القنافذ من لا شوك فيه ، فإنه لا وجود لعلماني في بلاد الإسلام بلا شك ولا تشكيك لديه في كتاب الله عز وجل لسبب بسيط هو تعصبه الأعمى لعلمانيته التي يراها التوجه الوحيد بل الأوحد الواجبة سيادته وهيمنته بزعم أنه هو السبيل التي لا سبل معه إلى التحضر والتقدم والرقي ، واللحاق بركب الأقطار التي ركبت قطاره .
و العلمانيون عندنا في بلاد الإسلام، وهم بالمناسبة صنفان : صنف لا يتحرج من إعلان مروق صراحة من الإسلام ، وصنف آخر يميل إلى اعتماد نوع من التقية ،فيزعم أنه بإمكانه أن يضع قدما في الإسلام وأخرى في العلمانية على طريقة أهل النفاق في بداية دعوة الإسلام ، وما هو ببالغ مراده بتقيته أو بنفاقه ، وهم يرون أن العقبة الكأداء في وجه تحقيق سيادة وريادة العلمانية عندنا هو الإسلام لأنه المقابل النقيض لها ، لهذا فالخلّص منهم في علمانيتهم يذهبون إلى أبعد حد في إقصائه جملة وتفصيلا من الحياة كي يخلو للعلمانية أن تفعل فعلها في بلاد الإسلام دون حواجزه ،بينما من يتقنع منهم بقناع التقية أو لنقل بقناع النفاق وهو أدق تعبيرا، يرفعون دعوات مفادها أنه حان الوقت لإعادة تأويل النصوص الدينية قرآنا كريما وحديثا شريفا خلافا لتأويل القدماء ، وذلك لجعلهما يوافقان العصر فيما طرأ عليه من أهواء، وهم يقصدون بطبيعة الحال عصر سيادة العلمانية دون منازع أو منافس .
والعلمانيون في بلاد الإسلام مشارقة ومغاربة ، وأكثر المغاربة منهم تحمسا لسيادة العلمانية التونسيون، وتحديدا العنصر النسوي منهم واللواتي يتخذن من قضية الدفاع عن حقوق المرأة مركبا ووسيلة لتكريس الدعاية المكثفة لسيادة العلمانية التي بدونها لا تدرك المرأة حقوقها كاملة غير منقوصة على حد زعمهن حتى أن بعضهن قد صرحن بمقدورهن التبول واقفات كما يفعل الذكور إن كان ذلك سيرد لهن حقهن في المساواة معهم في أنصبة الميراث .
ودون إشارة إلى اسم معين لتلك العلمانيات، سنقف عند دعوتهن لإعادة تأويل النصوص الدينية قرآنا وحديثا لجعلهما على حد زعمهن يوافقان أو يسايران العصر الذي يجب أن تسوده العلمانية وحدها دون منازع أو منافس .
ومعلوم أن طريقهن إلى تبرير ما يسمى إعادة تأويل النص الديني، هو انتقاد ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من تأويل له تواترا بعد أخذه عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، والطعن فيه، والاستنقاص من قيمته ، والزعم أنه محكوم بخصائص عصر قد ولّى بغير رجعة ، وفي هذا الزعم ما ينفي عالمية هذا النص كما يصرح هو نفسه بذلك في قوله تعالى مخاطبا رسوله : (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون )) . إنه من الواضح أن هذا النص القرآني يشير بما لا يقبل نقاشا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث للناس جميعا إلى قيام الساعة باعتبار رسالته خاتمة لا رسائل بعدها . ولو كانت هذه الرسالة خاصة بعصر دون آخر لما كان من معنى لعالميتها ، ولما كان لقوله تعالى : (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا )) من معنى أيضا وهو المنزه سبحانه أن يقول ما لا معنى له في رسالة عالمية خاتمة .
ومعلوم أن الله عز وجل أرسل الرسل لخلقه لتوجيههم التوجيه الصحيح وهم يخوضون غمار الحياة ، وكانت رسالاته تلامس كل أحوالهم ، وكان يخص كل أمة بما يتعلق بحياتها من التشريع ، ولمّا اقتضت إرادته سبحانه وتعالى ختم الرسالات بالرسالة الخاتمة ، فقد جعلها عالمية معنية بالناس جميعا إلى قيام الساعة ، ومغطية لكل أحوالهم الطارئة لأنها رسالة إن ظن البعض أنها خاصة بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها متضمنة لكل ما يلي عهده من عهود بشرع ثابت لا يعتريه التحول بتحول أحوال الناس بخصوص ما أحل الله تعالى وما حرم لأن الحلية واحدة في كل عصر ومصر ،والتحريم واحد إلى قيامة الساعة ، وبيان ذلك أن الله تعالى حين حرم على سبيل المثال لا الحصر المسكر من الشراب قد حرمه لذهابه بالعقل البشري ، وعلة ذهابه بالعقل ثابتة لا يمكن الزعم أنها قد تتحول في عصر ما أو في مصر ما ، وقياسا على مثال تحريم المسكر من المشروب تقاس كل الممنوعات التي حرمها الله عز وجل، وهو الذي جعل مقابل كل محرم حلا .
والعلمانيون الذي يدعون أنه من حقهم تأويل الرسالة الخاتمة لتكون موافقة لهذا العصر يمثلون لذلك بما يسمونه تأويلا يحل بزعمهم ما حرم الله عز وجل لأن العصر يقتضي ذلك،ومن هنا نادوا بما يسمونه حرية العلاقات الجنسية المثلية والرضائية ، وحرية التحول الجنسي ، وهو ما حرمه الله تعالى وسمه فواحش بمعنى سلوك منحرف عن الفطرة البشرية السوية التي فطر الناس عليها ، ونهى عن تبديلها .
وعلى مثال سعي العلمانيين نحو تغيير الفطرة البشرية فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية تقاس كل أمثلتهم المتعلقة بإحلالهم ما حرم الله تعالى من معاملات منحرفة بذريعة اقتضاء العصر ذلك . ولاندري بأي منطق يكون لأصحاب هذا العصر من الحرية الجنسية ما لم يكن لغيرهم ممن سبقهم ؟ ويكون فهمهم بخصوص ذلك هو الأصح يتميزون به عن فهم من سبقهم ؟
إن ما ينادي به العلمانيون في بلاد الإسلام من تأويل للنص الديني قرآنا وحديثا كي يناسب هذا العصر يدل على ضيق أفقهم لأنهم لا يتعاملون مع هذا الأمر وفق قاعدة اختلاف القناعات يترتب عنه بالضرورة اختلاف السلوكات ، ذلك أن من ليست لديه القناعة بأنه قد خلق ليبتلى في هذه الحياة الدنيا ثم يحاسب على ذلك في حياة أخرى تليها لا يمكن أن يكون سلوكه كسلوك من لديه هذه القناعة المخالفة لقناعته .
ولقد كان من المفروض أن ينصرف العلمانيون عندنا في بلاد الإسلام أصلا عن الخوض في النص الديني ، والقول بتأويله كما هو حال العلمانيين في بلاد غير المسلمين ، وبهذا يستريحون ويريحون ، ويكفون أنفسهم مشقة تأويل ما له تأويل واحد لا تصح معه تأويلات أخرى . وحقيقة ما يدعيه العلمانيون عندنا من التماس تأويل للنص الديني أنه مجرد خدعة مكشوفة الهدف منها التمويه على تعطيل هذا النص جملة وتفصيلا عبر مراحل متدرجة حتى يتم التمكين للعلمانية في نهاية المطاف سيرا على نهج العلمانيين في البلاد غير الإسلامية والذين أقصوا ما كان فيها من ديانات بغض الطرف عن طبيعتها من حيث السداد أو الانحراف عنه ،ومكنوا لعلمانيتهم التي صارت عبارة عن عقيدة أو دين بديل.
ومطلب العلمانيين بإحلال تأويلهم للنص الديني محل التأويل المجمع عليه منذ البعثة النبوية إلى هذا العصر ، وإلى آخر يوم من أيام هذه الدنيا الفانية محض وهم وخيال لا يستقيم منطقا ،لأنه لا سبيل إلى الجمع بين شرع هذا النص الديني ، وبين تشريعات العلمانية الوضعية ، وهما على طرفي نقيض .
والغريب أن العلمانيين عندنا لا أحد يطالبهم بالخضوع لشرع النص الديني كما يطالبون هم غيرهم بالخضوع لشرائع علمانيتهم ، ولو كانوا يحترمون ما يتبجحون به من دفاع عن الحريات وعلى رأسها حرية المعتقد لاعترفوا لمن يخضعون لشرع النص الديني بحريتهم في ذلك ، ولكنهم لا يفعلون ، والحريات عندهم لها معنى علمانيا واحدا عندهم، وهو حرية المروق من الدين، وحرية الانحلال الخلقي . .
فإلى متى سيستمر العلمانيون عندنا سواء المجاهرون بعدائهم للإسلام ، أو المموهون على ذلك في مطالبتهم بتأويل النص الديني وفق أهوائهم ، وهم في حل منه إن أرادوا ذلك بل لهم كامل الحرية في ذلك ولكنهم غير ذلك يريدون مما يصرح به بعضهم ، ويموه عنه آخرون مما ذكرناه سلفا ؟
وسوم: العدد 996