الأمانة... وأداء الواجبات
لأكثر الناس عمل في وظيفة من الوظائف التي يتقاضون عنها راتبا يعيش منه ، ومَن دخل بيئة مختلف هذه الأعمال فقد ألزم نفسه بواجب يجب أن يؤديه بصدق وإخلاص ونشاط ، وأن يتقن عمله ، ويحافظ على الأوقات المحددة له . أي أن هذا الموظف حمَّل نفسَه ألأمانةَ ، وهو مسؤول لدى صاحب العمل ، وهو مسؤول أيضا أمام الله سبحانه وتعالى ، وتلك مسؤولية ألقاها على عاتقه ، تلزمه بها الأمانة . ويحثه على أدائها على أحسن وجـه ضميرُه ــ كما يُقال ــ ومراقبة الإدارة التي تشرف على التنفيذ ، وتسعى لتكون مكانتها مميزة ومتفوقة وناجحة .
والموظف هنا يشعر بأنه مكلف ، وهذا التكليف له أجره الدنيوي ، فيسعى أيضا لينال مكانة خاصة من خلال انتظامه ، والمحافظة على أوقات العمل الرسمي ، فلا يهمل أسباب جودة الإنتاج ، ولا يتراخى أمام ضرورة إنجاز المهمة التي يزاولها ، وذلكم هو الإنسان النبيل الذي استجاب لنداء الأمانة ، ونأى عن هوى النفس الأمارة بالسوء حتى في مجال العمل ، وعن وسوسة الشيطان ، فلا يستخف بقيمة العقد الذي أبرمه من جهة العمل ، ولا بالعهد الذي قطعه على نفسه .
ولنا في ديننا الحنيف من القيم والآداب ، ومن مراقبة الله للناس في أعمالهم ، ومن المُثُل السامية ، مايجعل العامل في أي مجال ناجحا في أدائه ، حريصا على إنجار كل ماهو مطالب به . والمسلم والمسلمة في عملهما يخشيان ربَّهما في مزاولة أعمالها ، وهما بلا ريب على علم بما ورد في كتاب الله العظيم ، وفي سُنَّة نبيه الكريم في الحفاظ على العقود والعهود وإتقان الأعمال ومحاسبة النفس . ويعتبر عقد العمل وعدا وعهدا ، والمسلم الذي إذا وعد وفى ، وإذا عاهد لم يغدر ، وإذا عمل أتقن وأجاد ... وهو في كل ذلك يرجو الثواب والعاقبة الحسنة من لدن ربِّه سبحانه وتعالى في حركاته وسكناته وفي دنياه وآخرته . واستشعار المسلم بهذه المسؤولية تجعله يجد ويجتهد ، وحسبه عندئذ أنه نال الدرجة التي جاء ذكرُها في كتاب الله تبارك وتعالى وأنه إذ ذاك : ( القوي الأمين ) ، فإن مَن يقوم بالواجب ، ويؤدي حق شروط القيام بالعمل لهو بصدق القوي الأمين ، وما نال هذا الوسام إلا عندما اندفع إلى أداء عمله بالقوة التي يملكها ، وبالأمانة التي تتراءى له أمام ناظريه وهو في معترك العمل ، فيبذل طاقته له ، ويسخر حيويته لينال ثمرة جهوده ، فيطمئن قلبُه ويرتاح ضميرُه إذا أحسن في إبراء ذمته ، وهذا الصنف من الناس لهم التقدير من زملائهم في العمل ، ففي الحديث : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم قَالَ : ( إِنَّ الله يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ). أخرجه البيهقي في شعب الإيمان .
فالمجتمعاتُ تكبر أعمال المخلصين الأوفياء في أعمالهم وفي تعاملهم ، وما أجل أجمل ماورد في كتاب الله من قصة موسى عليه السلام مع ابنة شعيب عليه السلام إذ قالت لأبيها : ( يا أبت استأجرْه ، إن خير من استأجرت القوي الأمين ) . وهذا باب من أبواب الأمانة التي ناءت السماوات والأرض والجبال بحملها ، وفي الحديث الذي يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ماخطبنا رســــولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال : ( لاإيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لاعهد له ) رواه أبو يعلى .
ولا ننسى بأن أحكام الأمانة وظلالها المباركة تمتد على كل جوانب الحياة المجتمعية ... على الدماء والأموال والوظائف ، وعلى كل مايزاوله الإنسان من أعمال حتى تصل إلى الاستشارة يقدمها المسلم لغيره من الناس و ( المستشارُ مؤتمنٌ ) كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومتى ماكانت الأمانة خُلُقًا متأصلا في قلب المسلم ، وفي معاملاته فإن الناس يحبونه ويقدرونه ويثقون به . ويكفى أهل الصدق والأمانة في حياتهم شرفا ومكانة أنَّ رائدهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم الذي أكرمه الله بهاتين الصفتين حتى قبل نبوته ، فكان يُعرف عند القوم ( بالصَّادق الأمين ) . فبأداء الأمانة على وجهها تُصان الحقوق ، وتُؤدَّى الواجبات ، وتُنال الحقوق ، وتطمئن نفوس الناس في كل مواقع العمل . ومَن يخون الأمانة في أي موقع كان ، فقد ارتكب إثما كبيرا ، واستوجب سخط الله تبارك وتعالى ، ولسوف يُسأل عن فعلته أمام الله . ولأهمية أداء الأمانة على وجهها الصحيح وردت العديد من الآيات الكريمات ، والأحاديث الشريفة . فقد أمر اللهُ سبحانه بأداء الأمانة فقال في محكم كتابه الكريم : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ 58 /النساء . ونهى الباري عـزَّ وجلَّ أن يخون الإنسان أمانته فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُــــــــونُوا اللَّهَ وَالرَّسُــــــــولَ وَتَخُــونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ 2/الأنفال . و وعــــــد اللهُ مَن يؤدون أماناتهــــم بتكريمهم في جنَّات الخلود ففي القـــــرآن العظـــــيم : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِـــــمْ وَعَهْدِهِـــــمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُــــمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُــــــونَ * وَالَّذِينَ هُــــــمْ عَلَى صَلَاتِـــــــــهِمْ يُحَافِظُــــــــونَ * أُولَئِـــــــكَ فِي جَـــــــــــنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾32/35 [المعارج . وكذلك ورد في السُّنَّة المباركة العديد من الأحاديث الشريفة التي تحذِّرُ مَن لايصون الأمانة بأن خرج من دائرة الإيمان فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:( مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِلاَّ قَالَ:لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ) أخرجه أحمد . والبحث يتشعب في هذا المضمار ، ويطول فيه البيان ، وحسبنا أن نختم ببشارة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لِمَن اتصف بهذه المزايا الكريمة ، وعلى رأسها حفظ الأمانة . فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ ، فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ) أخرجه أحمد .
وسوم: العدد 996