ما أحوج الحكام العرب إلى وصية المهلب

من أفضل ما حفظ لنا تراثنا العربي وصية المهلب بن أبي صفرة إلى بنيه وهو يومئذ شيخ أوهنه المرض وأحس بقرب موته ، فرأى قبل رحيله عن الدنيا  أن يورّث أبنائه  وصية  ثمينة تجمع شملهم . وقد صارت هذه الوصية عبارة عن حكمة تصلح شتات أمر كل من تجمعهم  صلة أو قرابة أو صداقة أو يجمعهم جامع .

 ولقد كانت تدرس في مؤسساتنا التربوية يوم كانت الكتب المدرسية يتحكم في تأليفها الوازعان الديني والأخلاقي قبل أن تصير إلى ما صارت إليه اليوم من صرف الناشئة المتعلمة عمّا يسمو ويرقى بها نحو المعالي  إلى من ينحدر بها نحو المخازي .

وفيما يلي وصية المهلب الذي دعا بسهام فحزمت فقال لأبنائه :  

" أترونكم كاسريها مجتمعة ؟ قالوا : لا ، قال : أترونكم كاسريها متفرقة ؟ قالوا : نعم ، قال : فهكذا الجماعة ، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم ، فإن صلة الرحم تنسىء في الأجل ، وتثري المال ، وتكثر العدد ، وأنهاكم عن القطيعة ، فإن القطيعة تعقب النار ، وتورث الذلة والقلة ، تباذلوا وتواصوا وتحابوا ، واجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتبارّوا تجتمع أموركم ، إن بني الأم يختلفون فكيف ببني العلات ؟ وعليكم بالطاعة وبالجماعة ، ولتكن فعالكم أفضل من أقوالكم ، فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه ، واتقوا الجواب ، وزلة اللسان ، فإن الرجل تزلّ قدمه فينتعش من زلته ، ويزل لسانه فيهلك ، اعرفوا لمن يغشاكم حقه ، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له ، وآثروا الجود على البخل ، وأحبوا العرب ، واصطنعوا العرب ، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك ، فكيف الصنيعة عنده ؟ وعليكم في الحرب بالأناة والمكيدة ، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة ، وإذا كان اللقاء نزل القضاء ، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه ، قيل أتى الأمر من وجهه ، ثم ظفر فحمد ، وإن لم يظفر بعد الأناة ، قيل ما فرّط ولا ضيّع ، ولكن القضاء غالب . وعليكم بقراءة القرآن ، وتعليم السنن وأدب الصالحين . وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم . "

والوصية فيها زيادة  من نصح على ما سردناه ، لكننا نكتفي بهذا القدر منها ، فهو بيت القصيد ، أو كما يقال لمن قال فكفى وشفى : " حسبك عن القلادة ما أحاط بالعنق ".

وددت لو أن الحكام العرب الذي اجتمعوا في قمتهم الأخيرة كلفوا أحدهم فقرأ عليهم نص وصية المهلب ، ولو فعلوا لكان أجدى لهم وأنفع مما لاكته ألسنتهم مما لم يجمع لهم كلمة ، ولم يلم لهم شملا كما ادعوا ذلك بقول كذّبه الفعل والموقف .

ووددت لو أنهم عدلوا عما خلصوا إليه مما سموه توصيات إلى بنود وصية المهلب، ولو فعلوا لأصابوا المحزّ ، واجتمعت كلمتهم ، ولمّ شعثهم ، وقويت شوكتهم ، وحسب لهم أعداؤهم ألف حساب ، ولكنهم مع شديد الأسف والحسرة اجتمعوا ، وغاب منهم من غاب وهم متفرقون وليسوا على رأي واحد  ولا قلب واحد ، ولا على كلمة سواء بينهم ، وانصرفوا وهم على نفس الحال ، واجتماع كلمتهم من المحال .

وما أحوجهم إلى وصية المهلب وهم عبارة عن سهام لم تحزم ، ولم تجمعها كنانة ،فسهل على أعدائهم كسرهم ، وصاروا لهم تبعا وأنصارا وقد ولوا لبعضهم أدبارا. ولم يجعلوا شعارهم تقوى الله عز وجل ، وقطعوا أرحامهم ، وآثروا القطيعة على الوصال ، والخصومة على الوداد ، والخلاف  على الوفاق ، وخالفت أفعالهم أقوالهم ، وزلت بهم ألسنتهم  فيما بينهم ، وآثروا البخل على البذل ، ولم يصطنعوا بعضهم ، وليس بينهم صنيعة  بل لم يبلغوا  حتى درجة العدة ، فأنى يموت بعضهم دون بعض ؟  وليس لهم في حروبهم أناة ولا مكيدة  بل تهور وسقوط في المصيدة ، وهجروا القرآن ، وأعرضوا عن تعليم السنن ، وابتلوا بالخفة في اتخاذ القرار، وبكثرة الكلام في مجالسهم ومحافلهم دون طائل أو نفع يرام .

وخلاصة القول أنهم أتوا من المواقف و الأفعال خلاف ما أوصى به المهلب ، وكان الأجدر بهم أن يأخذوا بوصيته فيسبق مؤتمرهم فتح الحدود فيما بينهم برا وبحرا وجوا  إن لم نقل هدمها  أو إسقاطها من خرائطهم ، وذلك لتسهيل  تنتقل شعوبهم  ونقل بضائعهم عبرها . وأنى لشملهم أن يلمّ وبعضهم ينكر سيادة بعض على أجزاء من أرضه ، ويسعى لقطع أواصر شعبه ، وهو يعادي وحدته ، ويساند عدوه ، ويعدّ لجاره وشقيقه من العدة والعتاد ما لا يعده لعدوه ؟

ولقد ضمّن المهلب وصيته ما يفيد الحكام العرب  في فهم طبيعة الاختلاف فيما بينهم حين قال : " إن بني الأم يختلفون ، فكيف ببني العلات ؟ "  والعلاّت  ــ مفرد علّة  ـ بفتح العين ـ هي الضرّة ، فما أحوج حكامنا العرب إلى استيعاب هذه الحكمة المهلبية ذلك أن الاختلاف حاصل لا محالة بين أبناء من أم واحدة ، فكيف بمن كانت أمهاتهم علات أو ضرائر ؟  

وخير ما نختم به هذا المقال نصح لحكامنا العرب  ، وهو خير من وصية المهلب قول الله تعالى : ((  و أطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )).

وما نظن أنه بقي اليوم شيء من ريحهم و هم على هذا الحال من فرقة وشتات وحالهم كحال الأيتام في مؤدبة اللئام كما  قال القائد المسلم طارق بين زياد في خطبته الشهيرة وهو يحث جيشه على الصبر والثبات، ويتأهب بجيشه لفتح بلاد الأندلس التي ضيعها من بعد فتحه لها من الحكام من أخنس وأفلس .

وسوم: العدد 1005