كيف تختفي سوريا التي عرفناها؟!
من العجيب كيف أصبح مثيراً للسخرية أن يتحدّث أحدنا بشيء من الأمل عن سوريا، على الرغم من فرادة ما حصل لها في العصر الحديث؛ مع أننا حين نفتش في الأرشيف، نجد أمثلة عديدة على أمم حاولت عبثاً «استعادة العادي» في حياة المجتمعات البشرية، كما كان قبل سنوات حرب ودمار واسع النطاق. وتمثّل الحرب العالمية الأولى زمناً مهماً للدراسة، واستعارة المنطق، في منطقتنا في المشرق بعد» سفر برلك»، وفي أوروبا التي دمّرتها تلك الحرب. كان هنالك نصف مليون قتيل في معركة واحدة من تلك الحرب على الأرض البلجيكية، ومليون من الضحايا في معركة فردان الفرنسية.
ورد في كتاب عن هذا الموضوع أن امرأة إنكليزية عجوزا متزوجة من أرستقراطي ألماني كانت تنوح قائلة، بعد إعلان هدنة الجبهة الغربية: «مَن تحدثت إليهم من الناس أصيبوا بالفعل بالاكتئاب والرعب، لاسيما أن الحصار لن يتم رفعه قريباً، ما يعني لكثير من الناس موتا بطيئاً من الإرهاق». ما يُرعب السوريين بالفعل حالياً، هو شروط وظروف وآليات عمل وتأثير الهدنة الحالية الطويلة الأمد، إن جاز أن نسمّي المستنقع القلق أمامنا كذلك!
هنالك مصالح تتضاءل في سوريا ومسألتها لكلٍّ من العراق ولبنان وفلسطين والأردن والسعودية وقطر والإمارات والاتّحاد الأوروبي، كل منها لسبب أو أسباب، هنالك أيضاً وجود عسكري يحمي مصالح إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة – وإسرائيل بظلّها الطويل بالطبع في الجولان، وفي الأجواء السورية. هذا معقّد ولن يكون تفكيكه سهلاً، لكن الأكثر تعقيداً منه هو ما فعله النظام وتلك القوى من تشجيع لأطراف محاربة مغامرة متنوعة وعديدة على الأرض، جاءت من الخارج بدورها، هي بالعشرات، وربما بالمئات. فبتنسيق من الحرس الثوري الإيراني توجد على الأرض ميليشيات شيعية عديدة، منها السوري المرتبط مباشرة، ومنها العراقي، ومنها الأفغاني البارز بقوته وتعداده تحت اسم» لواء فاطميون»، ومنها الباكستاني.. ولكلّ من تلك القوى «حزب الله» الذي يختصّ بها لتنسيق تحكّم فيلق القدس.. وعلى رأس الكلّ «حزب الله اللبناني» الأجنبي، الشريك الكبير الذي طالما اختُبر في ساحات متعددة. لا يتوقّف النفوذ الإيراني عند تلك القوى، بل له حصّته من قوات النظام السوري الرسمية وخصوصاً في الفرقة الرابعة، وبعض أجهزة الأمن.. لروسيا مثل ذلك أيضاً من تلك القوى والجهات، في الفيلق الخامس خصوصاً، وجهات أمنية مركزية، وأركان الجيش، وفي قواعد ثابتة بناءً على عقود مفتوحة. هنالك «ميليشيات أجنبية» أخرى عديدة على جانب النظام، منها ما هو تابع لتجّار الحرب ومهرّبي النفط والمخدّرات تحت جناح السلطات، ومنها ما هو منتدب للسيطرة حيث يسود الخوف من انفلات عقد السيطرة والهيمنة مع ضعف السلطة المركزية، ومنها ما هو تابع لقوى قومية متنوعة أو طائفية أيضاً. كذلك في الشمال الغربي – ومنطقة نبع السلام في الشمال الشرقي – هنالك عشرات الفصائل التي ينظمها العقد التركي غالباً، مع دعم إقليمي آخر، بالتمويل حالياً على الأغلب، في إطار ما يُسمّى بالجيش الوطني السوري، المؤلف من أكثر من ثلاثين فصيلا تنتظم في ثلاثة فيالق، أكّدت الاشتباكات البينية في عفرين وبقربها مؤخّراً على هشاشة وحدتها وخطورتها وانضباطها. تقود هيئة تحرير الشام – النصرة سابقاً، و»القاعدة» قبلها، وهي عامل خارجي في جوهره وعناصره الفاعلة – الوضعَ في إدلب، وحكومتها الخاصة بها، لتهيمن بيد حديدية على ما يوجد من فصائل. تطمح الهيئة من دون لبس باستكمال الهيمنة شمالاً أيضاً. من جهة أخرى توجد فصائل تركمانية متنوعة، تلك المسماة باسم السلاطين العثمانيين مراد وسليمان وملكشاه، يستقوون بتركيا ويحتمون بها وبالقومية أو العرق التركي، ويمارسون سياساتهم الخاصة أيضاً ضمن النسق العام، الذي يتجاوز ما هو معلن من «الروح الثورية» إلى أشكال عصبوية أخرى من النشاط، لا تختلف عن تلك السائدة في مناطق النظام.
في الشمال الشرقي – ما عدا مناطق نبع السلام التي سيطرت عليها تركيا وفصائل تنتظم معها – هنالك قوات سوريا الديمقراطية، وقوات الأمن – الأسايش بالكردية، وهنالك الكيان السياسي: مجلس سوريا الديمقراطية، مع الحوكمة الخاصة التي تديرها «الإدارة الذاتية» على نسق خاص، تدعم الولاياتُ المتحدة وقدرات تلك المنطقة الاقتصادية من نفط وحبوب تلك الإدارةَ، التي يُقال إنها متداخلة مع خيوط مقبلة من جبال قنديل في الشمال الشرقي الأقصى من العراق، حيث تتمركز قوات حزب العمال الكردستاني – التركي. تتعقّد تلك الخيوط وتنجدل، خصوصاً بسبب القرابة الأيديولوجية التي تشترك بجذع واحد، لتزيد من صعوبة جهود من يعملون على توجيه تلك القوى السورية، حيث تنتمي باتّجاه الداخل السوري والقضية السورية، وإضافة إلى العوامل الخارجية – التركية والقنديلية والأمريكية.. والداعشية – لا تخلو تلك المناطق من فوضى مختلفة وأيديولوجية المنشأ، وميولٍ إلى التفرّد والسلطوية قد تزيد بدورها من صعوبة استعادة وحدة البلاد لاحقاً، مع كلّ ما تقوم به على ذلك الدرب أوضاع المناطق الأخرى في الشمال الغربي، وفي مناطق النظام. ذلك ـ كما يبدوـ عامل وفاعل خارجي في تفتيت واقع ومستقبل البلاد، وهناك عامل ثانٍ يمكن ملاحظته، أسود الملامح والأفق. يكمن لنا هذا في ما حدث من تحريك للكتل المجتمعية، كلاً وأجزاءً في داخل سوريا وإلى خارجها القريب والبعيد. في هذا الحقل يبدو لنا المستقبل مختلفاً بسوريا مختلفة: فقد تغيّر تركيب الشعب على الأرض السورية أو على الأراضي السورية.
في بعض الأبحاث التجريبية التي أجرتها مؤسسات تحظى باحترام وقبول موضوعيين مثل، جامعة كولومبيا في نيويورك، تناقصت نسبة السنّة العرب بين عامي 2010 و2018 في تركيبة المجتمع السوري على الأرض بأكثر من عشرة في المئة (من 59.1 إلى 48.9%)، وتزايدت نسبة العلويين العرب بحوالي 5.4% (من 11.8 إلى 17.2%)، وحافظ المسيحيون على نسبتهم تقريبآ، وهي النسبة التي عانت في العقود الأخيرة من تدهور كبير. في الفترة ذاتها زادت نسبة الكرد قليلاً، وكذلك نسبة الدروز والإسماعيليين والشيعة والتركمان، على عكس الآشوريين الكلدان مثلاً.
خلال السنوات الأربع الأخيرة تغيّرت تلك النسب قليلاً أو كثيراً، وازداد بالملاحظة العينية لجوء ونزوح السوريين هرباً من الوضع الخانق والخدمة العسكرية ومن غياب الأمل، تلك الدراسات التي نعاينها هنا تقريبية قد تتدخّل فيها أحياناً عوامل غير موضوعية، إلّا أن هنالك تغيّراً لا يخفى وانزياحات تتعلّق بالمكان نفسه، حيث اختلفت تلك النسب حتماً ما بين الشمال والجنوب، حسب سلطات الأمر الواقع هنا وهناك. لكن ما يهمّ هنا هو درجة تأثير ذلك في مستقبل سوريا واحتمالات إعادة تشكيلها. بالطبع لن يكون ممكناً «استعادة العادي» بأي حال من الأحوال، لأن ما كان» العادي» قد مضى وانقضى في سماته المادية والروحية بكلّ أشكالها. نتكلّم عن «سوريا» جديدة، ومختلفة إلى هذا الحدّ أو ذاك. لا تختلف هذه البلاد عن ذاتها القديمة وحسب، بل تختلف في نوع التجربة وعمقها، حتّى عمّا مرّ بالشعوب الأوروبية في الحربين الكونيتين الأخيرتين.
قد تشبه المحاولة المقبلة لتشكيل سوريا، تلك التي جرت بعد مجاعات ونزاعات القرن التاسع عشر ثم «سفر برلك»، وانزياح تركيبة السكان وشكل الاجتماع البشري مع الحروب القريبة والبعيدة، وآثار الكارثة المعيشية الساحقة. بالاشتراك المعقّد مع الصراعات الاستعمارية والإمبريالية والعالم الذي أخذ يتشكّل بدوره آنذاك، ذلك كلّه جعل فكرة» الانتداب» قابلة للتمرير آنذاك، وإن أخذت شكلاً متخلّفاً ومشوّهاً ولا يحظى بالشرعية الدولية الكافية.
بعد الحرب الكونية الأولى وعنفها الهائل، وفي عشرينيات القرن الماضي، انطلق عنف ثانوي هزّ العالم، في حروب أهلية مثلاً (في الاتحاد السوفييتي وإيرلندا)، وفي حروب معقدة بالعنف مع التبادل السكاني (اليونان وتركيا وبولونيا)، وفي ظهور شكل العمل عالي الانضباط وشبه العسكري (في ألمانيا وإيطاليا وهنغاريا).
لا يمكن التنبؤ بمدى العنف والفوضى اللذين سيتبعان الحرب السورية لو انتهت، كما لا يمكن توقّع انتهائها مع درجة ازدحام وتشابك الخيوط الخارجية. ذلك المستوى من التوابع الكارثية المقبلة والمحتملة يحتاج إلى اهتمام مفقود، وإلى دور مختلف جذرياً للنظام الدولي، وآخر مختلف أيضاً للسوريين، مع صعوبة عميقة فيهما كليهما!
وسوم: العدد 1009