سلسلة من أيامي 17.. اللّغة العربية من خلال القاضي والمحامي

كتب البارحة صديقنا  Mahammed Bouabdallah، منشورا حول استعانة القضاء البريطاني به في الترجمة، وممّا قاله: "ومما كان يستوقفني في هذه الجلسات، هو تلك اللغة العالية التي يتكلم بها القضاة والمحامون! لغة شكسبيرية ساحرة، تسمع فيها القاضي والمحامي يحيلان إلى نصوص أدبية وإلى نصوص فلسفية، بالموازاة مع النصوص القانونية! شيء كنتُ أطرب له، بل كنتُ أسجل بعض عناوين الروايات، أو بعض الكلمات التي لولا هذه المجالس القضائية لما صادفتها أبدا!".

عقّبت على الفور، قائلا: "دفعتني لأكتب عن الموضوع. تحياتي". 

أقول: وأنا طفل ومراهق، كنت كغيري من الأطفال والمراهقين الجزائريين من المتتبعين للأفلام، والمسلسلات المصرية خاصّة التّاريخية منها، والتي كانت تبثّ يومها عبر الفضائية الجزائرية الوحيدة، وبالأبيض والأسود، وقبل زلزال الأصنام 10 أكتوبر 1980.

كنت أتابع الأفلام المصرية التي تتطرّق للمحاكم، ومعجبا جدّا بفصاحة القاضي، وممثّل النيابة، والمحامي.

وأضفت في شبابي متابعة الأفلام الأمريكية النّاطقة باللّغة الفرنسية، خاصّة الأفلام الاجتماعية التي تتطرّق للقضاء، والمحاكم.

أشدّ ماكان يشدّني إليها: فصاحة القاضي، والمحامي، والحوار القوي، والأدلّة الدامغة، والاستنتاج الفريد في تبرئة المتهم، أو توريطه. ويحدث كلّ هذا  بلغة عالية،  وفصيحة تطرب السّمع، وتريح المشاهد.

وحين تخرّجت من الجامعة في جوان 1990 وقبل التوظيف، عملت يومها بأسبوعية "الصح-أفة" السّاخرة، وتزامن ذلك مع بداية العشرية الحمراء، و واغتنمتها فرصة لحضور المحاكمات ذات الشأن السياسي، ومحاكمات ذات الشأن العام.

أعترف، أنّي صدمت للمرّة الأولى، وأنا أتابع الضعف اللّغوي الرهيب للقاضي، والمحامي، حيث كانت المحاكمات بالعامية الجزائرية، وخالية من الفصحى، وأنا الذي كنت أعتقد أنّ جلسات المحاكم تتم باللّغة العربية الفصحى.

وأثناء توظيفي بجامعة الشلف بتاريخ 1992، حيث تمّ إنشاء قسم العلوم القانونية فيما بعد، وابتداء من سنة 2000، ثمّ إنشاء كلية العلوم القانونية. فوقفت على حقيقة اللّغة العربية لدى القاضي، والمحامي الجزائري.

ممّا يستحقّ التذكير في هذا المقام، أنّ العاملين بالقضاء والمحاماة، يتقنون العربية الفصحى، ويكتبون بلغة عربية سليمة، باعتبارهم درسوا باللّغة العربية. لكن العامية هي السّائدة فيما بينهم، حين يتعلّق الأمر بالحديث شفاهة.

وممّا علق بالذاكرة، أنّي حضرت لمحاكمة في التّسعينات من القرن الماضي، وأثناء العشرية الحمراء، حيث تقدّم أجنبي أوروبي -فيما أتذكر-، وأراد أن يتحدّث باللّغة الفرنسية، فأوقفه القاضي، وعلى الفور طلب من أحد المحامين أن يكون مترجما له.

مع العلم القاضي يحسن اللّغة الفرنسية جيّدا، لكنّه رفض التّحدّث بها، ومخاطبة الأجنبي الأوروبي بلغته الفرنسية احتراما، وتوقيرا للجزائر، والجزائريين، والقضاء، والعدالة الججزائرية. وكان موقف القاضي حينها -وما زال-، يعبّر عن القوّة، والعظمة، والحضارة، ويعتبر بحقّ مثالا يقتدى في الاعتزاز باللّغة العربية.

قد أجد الأعذار للعاملين بسلك القضاء، والمحاماة من الجيل الأوّل الذي درس باللّغة الفرنسية طوال دراسته وتكوينه، ولا يستطيع التحدّث شفاهة باللّغة العربية الفصحى. كما وجدت الأعذار للأطباء، الذين درسوا طوال حياتهم وتكوينهم باللّغة الفرنسية. لكن أبدا، ومطلقا لاأبرّر للعاملين بسلك القضاء، والمحاماة، والأطباء الشباب تحدّثهم بالعامية الجزائرية، ومهما كانت الأسباب والظروف وهم أبناء المدرسة الأساسية، الذين درسوا الابتدائي، والمتوسط، والثانوي، والجامعي، والتكوين باللّغة العربية الفصحى.

وسوم: العدد 1010