في عِلم الجَمال-2
يتطرَّق مقالنا اليوم لآراء اليقينيِّين والتجريبيِّين في النقد الجَمالي. وقد رأينا في المقال السابق أنَّ مصطلح (عِلم الجَمال/ فلسفة الجَمال)، يتعلَّق بـ"دراسة طبيعة الشعور بالجَمال، والعناصر المكوِّنة له، كامنةً في العمل الفنِّي."(1) وأنَّ العمل الفنِّي هو مادَّة (عِلم الجَمال The aesthetic). وتطرَّقنا إلى نشأة هذا العِلم، إن صحَّت تسميته بـ"عِلم". ذلك أنَّ النقد الجَمالي، كما يذهب (أميل فاغيه Émile Faguet، -1916)، إنَّما يرتكز في بعض أصوله على الظنِّ والحدس، ويتمازج فيه العِلم بالفن، محاولًا الاقتراب من العِلم، دون بلوغه. ولذا كان الانطباعيُّون يُنكِرون القواعد في نقد الجَمال.(2)
أمَّا اليقينيُّون المحدَثون، كـ(تين Taine)- الذين تعود جذور نظرتهم التشريعيَّة في الفنِّ إلى (اليونان) منذ (أرسطو)- فيرون أن مهمَّة النقد الجَمالي: تحليل الجَمال، لا تقديره، أو الحُكم عليه، وذلك بردِّ الآثار الفنِّـيَّة إلى ثلاثة عوامل: الجِنس، والبيئة، والعصر. غير أنهم قد خالفوا عِلميَّتهم هذه، كما فعل تين أحيانًا. على حين كان التجريبيُّون التحليليُّون- بزعامة الفيلسوف الألماني (جوستاف فخنر Gustav Fechner، -1887)- يلجؤون إلى منهجٍ عِلميٍّ مشتقٍّ من مذهب (تين)، مستمدين أصول طريقتهم من عِلم النفس وعِلم الاجتماع، معتمدين على الاستفتاء والاستجواب. وهذه الطريقة التجريبيَّة تلقى استحسانًا ورواجًا في هذا العصر العِلمي، جعلَ بعضًا يزعم أنها ستستأثر بمستقبل عِلم الجَمال.(3)
وهكذا نقف على أهم الطُّرق لدراسة الجَمال، وهي: الذاتيَّة، والموضوعيَّة العِلميَّة التاريخيَّة، والتجريبيَّة التحليليَّة. وكلُّها- على حدِّ رأي الباحث الجَمالي (شارل لالو Charles Lalo، -1953)- يكمل بعضها بعضًا. وهو لهذا يرَى أن الطريقة المُثْلَى تتمثَّل في: دراسة العناصر البنائيَّة "التكتيكيَّة" في الفنِّ- من وسائل الجَمال فيه ومظاهره- والتوفيق بين الذاتيِّ والموضوعي، لاستخراج قوانين نسبيَّة مَرِنة، غير كُلِّـيَّة ولا يقينيَّة.(4)
وتتركَّز ميزات الفنون الجميلة المشتركة- وإنْ تغيَّرت أشكالها وتبدَّلَتْ مُثُلها العُليا- حول: حُرِّيَّة التعبير على غير مثالٍ سابق، وامتلاك القيمة الذاتيَّة المنفصلة عن الغاية، والاتصال الحميم بالنفس، وتمتُّعها بتراكيب رفيعةٍ ماهرة التعبير. وتتمثَّل علامات الجَمال في: الوَحْدَة مع التنوُّع، وتوافق الأجزاء، والتناسب، والتوازن، والتدرُّج والتطوُّر، والتكرار.(5)
وللفنِّ مهمَّة، هي- كما يراها (هيجل)(6)، بحسب شروطه-: التوفيق بين الفكرة وتمثيلها الحسِّي، بتشكيل كُلِّيَّةٍ حُرَّةٍ منهما. وهدفه النهائي "لا يمكن أنْ يكون سِوَى: كشف الحقيقة، وتمثيل ما يجيش في النفس البَشَريَّة تمثيلًا عينيًّا ومشخَّصًا."(7)
وقد انتهَى (عِزُّالدِّين إسماعيل)(8)، في مناقشته الأُسس الجَماليَّة في النقد العَرَبي، إلى أنَّ الجَمال عند العَرَب- من خلال شِعرهم ونقدهم وفكرهم- شكليٌّ وصناعيٌّ، وهم يرونه في الفنِّ أكمل منه في الطبيعة. ونقدهم- باتجاهه الشكليِّ- ذو نزعة "كلاسيكيَّة إستطيقيَّة"، يهتمُّ بجَمال التعبير فوق اهتمامه بالمحتوى، غير أنَّه يكشف عن الأساسَين المشتركَين في كُلِّ الفنون، وهما: الإيقاع، والعلاقات؛ فكان النقاد العَرَب في ذلك نقَّادًا إستطيقيِّين بالمعنَى الصحيح. وما نرى إلَّا أنَّ (عِزَّالدِّين) قد عمَّم في القول: إنَّ العَرَب كانوا حِسِّيِّين في انفعالهم بالجَمال، بناءً على نظرتهم الجَماليَّة من خلال الشِّعر. وهو يزعم هذا دونما دراسة موضوعيَّة تتيح له، منهاجيًّا، مِثْلَ ذاك الجزم. وإنَّما يستند إلى أمثلةٍ مقتضبةٍ من وصف المرأة، لا يصحُّ الركون إليها على أنها تُمثِّل نظرة العَرَبيِّ إلى الجَمال، حتى في حدود هذا الوصف. ولعلَّ دراسة جَماليَّات تصوير الحيوان تكشف عن أن الصُّورة الشِّعريَّة لم تكن تُعبِّر عن الجَمال الحِسِّيِّ الشكليِّ عند العَرَب فقط، بل إنها- حتى عندما تُعبِّر عن هذا الجَمال الحِسِّيِّ- إنَّما تتَّخذه، في كثير من الأحيان، وسيلةً غير مباشرة، تَنْفُذ من خلالها الصُّورةُ، أو توظِّفها، للإفضاء بمعانٍ نفسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ وفكريَّةٍ شتَّى، تستلزم الاستقراء.
وفي مقال الأسبوع المقبل نشرع في دراسة تطبيقية في جَماليَّات تصوير الحيوان في الشِّعر العَرَبيِّ القديم: (الذِّئب، والكلب، والثَّور الوحشي).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهبة، مجدي، (1974)، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان)، 7.
(2) يُنظَر: غريِّب، روز، (1952)، النقد الجَمالي وأثره في النقد العَرَبي، (بيروت: دار العلم للملايين)، 7- 8.
(3) يُنظَر: م.ن، 9.
(4) يُنظَر: م.ن، 10.
(5) يُنظَر: م.ن، 12، 20- 28.
(6) يُنظَر: (1988)، المدخل إلى علم الجَمال/ فكرة الجَمال، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: دار الطليعة)، 125- 000.
(7) م.ن، 100.
(8) (1955)، الأُسس الجَماليَّة في النقد العَرَبي: عرض وتفسير ومقارنة، (مِصْر: دار الفكر العَرَبي)، 128- 248.
وسوم: العدد 1027