الذِّئب في الشِّعر العَرَبي-2 (المُثُل والجَماليَّات)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

يُصَوِّر الشُّعراء الذِّئب وهو «يَعْتَسُّ»، أي يطلب الصَّيْد تحت جُنْح الظَّلام، مطوِّفًا في سبيله، حتى سُمِّي: «العَسوس»، و«العَسيس» و«العَسْعَس»، و«العَسْعاس»(1). قال (الحُطيئة)(2):

ويُمْسِي الغُرَابُ الأَعْوَرُ العَيْنِ وَاقِعًا       مَعَ الذِّئْبِ يَعْتَسَّانِ نَارِي ومِفْأَدِي

و«يَعْتَسَّان» عبارة موحية بما أراده الشاعر من تصوير خِفَّة الذِّئب؛ إذ يَتَحيَّن سانحةً ما ليقتنص ما أمكنه اقتناصه ثمَّ يُولِّي. وقد زادتها تعبيرًا صيغة الافتعال هذه التي استخدمها الشاعر.

والشَّاعر إذ يرى الذِّئب فإنَّما يَلمحه لمحًا، يلوح سريعًا، كأنما هو شَبَحٌ؛ لِضَواهُ وخِفَّة مروره، أو كأنَّه ثوبٌ يَرِفُّ فجأةً فيختفي. فيُصوِّر (غيلان بن سلمة) حركته تلك بقوله:

بِتَنُوْفَةٍ جَرْدَاءَ يَجْزَعُها       لَـحِبٌ يَلُوْحُ كأنَّهُ سَحْلُ (3)

راصدًا كلَّ العناصر لرسم هذه اللوحة؛ فـ(الذِّئب) في «تنوفة»: (مفازة متباعدة الأطراف، لا ماء بها ولا أنيس)(4)، يؤكِّد ذلك بوصفها بـ«جرداء»، والذِّئب «يجزعها» جَزْعًا: (يقطعها عَرْضًا لا طُولًا) (5)، وهو «لَـحِب»: (قد انحسر لحمه)، يوازي في اللوحة «التنوفةَ الجرداء»، وهو «يلوح» للشاعر، كما يلوح الآلُ في تلك المفازة، وكأنَّه «سحل»: (نوعٌ من الثياب اليمانيَّة).(6) حتى إنَّ هذه (الحاءات) المتوالية تُعمِّق الإحساس بتفاصيل الصُّورة، في ازدواجٍ بين عنصُرَي الشَّفافيَّة والخِفَّة. ومع أنَّه يبدأ البيت بوصف الصحراء فإنها لا تهمُّه في شيءٍ من الصُّورة، إلَّا من حيث كونها خلفيَّةً تخدم تصويره الذِّئب وحركته الخاطفة؛ ولهذا جاءت (الباء) في قوله: «بتنوفة»؛ لتربط وصف الذِّئب، الذي سبق في أبياتٍ من قبل، بوصف حركته في هذا البيت، بظرفٍ مكانيٍّ يُضفي على قلب الصُّورة المتمثِّل في (الذِّئب)، وعلى حركته، أبعادًا ضوئيَّةً وتموُّجات لَونيَّة، تُحقِّق تنوُّعًا فنِّـيًّا، يُوظَّف أساسًا في سبيل وَحْدَة اللوحة.

والشُّعراء- في إعجابهم بحركة الذِّئب ورشاقتها– يُعْنَون بانتخاب أقرب الألفاظ تصويرًا لتلك الحركة، فتتعدَّد صور التعبير عندهم. منهم مَن يقول: إنَّ عَدْوَه إرخاء، وإنَّه يَعْتَسُّ، وإنَّه يَلُوْح لوحانًا، كما مرَّ، ومنهم من يقول: إنه «يُزَجِّي»، كـ(ابن مُقْبِل)(7)، إذْ قال في وصف الأطلال:

سَخَاخًا يُزَجِّي الذِّئبُ بينَ سُهُوْبِها       وفَحْـلُ النَّعَـامِ رِزُّهُ وأَزامِلُـهْ

أي: يتمشَّى في خِفَّةٍ ورِفق، ويَعدو بين سُهوب سَخاخ تلك الأطلال. والسَّخاخ: الأرض اللَّينة الحُـرَّة(8)، وكأنما (الذِّئب) يتدافع ليِّنًا في تدفُّق سَيره. وفي صورة سهوب السَّخاخ، الموصوفة باللِّين، خَلْفيَّة كتلك التي سبقت في صورة (غيلان بن سلمة). ويُلحَظ فيها التناسب بين مختلف العناصر: من اللِّين، وخفَّة الحركة، والاضطراب، والتموُّج، مع تسخير الأصوات والأشكال البنائيَّة في المفرد والمركَّب لتمثيل حركة الذِّئب.

وكثيرًا ما وصفوا (الذِّئب) بالعسَّال؛ لاضطرابه في عَدْوه واهتزاز رأسه. قال (الفرزدق)(9):

وأَطْلَسَ عَسَّالٍ، وما كانَ صاحبًا،       دَعَوْتُ بـناري مَـوْهِـنًـا فأَتانـي

وقال (أعرابي):

أَوْدَى بِوَرْدَةَ أُمِّ الوَرْدِ ذو عَسَلٍ       مِنَ الذِّئابِ إذا ما راحَ أو بَكَرَا(10)

وبعَسلان الذِّئب شبَّهوا عَسلان الرُّمح؛ فقال (ابن مُقْبِل)(11)، مثلًا:

وذِيْ عَسَلانٍ لم تُهَضَّمْ كُعُوْبُـهُ       كما خَبَّ ذِئْبُ الرَّدْهَةِ المُتَأَوِّبُ

أو قد يشبِّهون بعَسلان الرُّمح عَسلان الذِّئب، كما وصفَه الشاعر نفسه بقوله:

كالرُّمْحِ أَرْقَلَ في الكَفَّيْنِ واطَّرَدَتْ       مِنْهُ القَـنَـاةُ، وفيها لَـهْذَمٌ غُوْلُ(12)

وهكذا يتنافس الشُّعراء في تصوير حركة (الذِّئب)، أيُّهم أدقُّ اختيارًا لما يُمثِّلها من لفظ أو تشبيه.

(وللحديث بقيَّة).

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، والجوهري، الصِّحاح، (عسس).

(2) (1958)، ديوان الحُطيئة، بشرح: ابن السكِّيت والسكَّري والسجستاني، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده)، 155.

(3) الجاحظ، (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1: 378.

(4) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (تنف).

(5) يُنظَر: م.ن، (جزع).

(6) يُنظَر: م.ن، (سحل).

(7) (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 241/ 12.

(8) يُنظَر: ابن فارس، مُجمل اللُّغة، (سخ)؛ ابن منظور، لسان العَرَب، (زجا).

(9) (1983)، ديوان الفرزدق، بعناية: إيليا الحاوي، (بيروت: دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة)، 2: 590/1.

(10) الجاحظ، الحيوان، 2: 203، 277.

(11) ديوانه، 16/ 23.

(12) ذيل ديوان ابن مُقْبِل، 386/ 39.

وسوم: العدد 1030