كريم خان في السودان: محكمة الأقواس المعوجّة

بمعزل عن مبالغة متعمَدة قد يسوّغها المقام، ثمة ما يشبه المعجزة في أنّ كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وجد أخيراً فسحة من وقته الثمين (المكرّس، بالكامل تقريباً، لملفات أوكرانيا) كي يحيط مجلس الأمن الدولي علماً بـ»الأحداث التي وقعت في إطار الأعمال القتالية الراهنة» في السودان؛ منذ اندلاع المواجهات العسكرية الدامية بين الجنرالين عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، والجنرال محمد حمدان دقلو قائد الجيش الموازي المسمى «قوّات الدعم السريع». كذلك زفّ خان البشرى بأنّ مكتبه يحقق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم جديدة ضد الإنسانية في إقليم دارفور، مستذكراً بأنّ «التاريخ قد يكرر ذاته» بالمقارنة مع أهوال شهدها الإقليم في سنة 2003.

والسرعة القصوى التي طبعت قرار المحكمة إصدار مذكرة توقيف بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بسبب «مسؤوليته عن جرائم حرب» ارتُكبت في أوكرانيا، ليست سوى الفصل الأحدث في مباذل محكمة لم تكن في أيّ يوم جديرة باسمها؛ في ما يخصّ مفهوم الحدود الدنيا للعدالة، أوّلاً؛ ثمّ المساواة بين مجرمي الحرب أياً كانت جنسياتهم، أو ألوان البشرة في وجوههم تالياً. سجلات المحكمة تقول إنها حتى الساعة لم تعمد إلى طلب توقيف، فكيف بإدانة، بشرة بيضاء واحدة؛ مقابل 44 بشرة سمراء أفريقية؛ كما أنّ 10 من أصل 14 تحقيقاً يعكف عليه محققو المحكمة، تخصّ أفريقيا.

لا أحد في أروقة المحكمة يردّد اسم مجرم حرب كيميائي مثل بشار الأسد، وللمتناسين والمتجاهلين ذريعة ّ»قانونية» بالطبع: في عام 2015 أصدرت فاتو بنسودا، المدعية العامة السابقة للمحكمة، توضيحاً رسمياً قالت فيه إنّ الفظائع المزعومة في سوريا تشكل بالفعل «جرائم خطيرة تثير قلق المجتمع الدولي وتهدد السلم والأمن والرفاه في المنطقة وفي العالم»؛ إلا أنّ سوريا ليست طرفاً في نظام روما، وبالتالي لا تتمتع المحكمة بالاختصاص الإقليمي للتحقيق في الجرائم المرتكبة على الأراضي السورية. العجيب أنّ خان، خَلَفها، لم يكترث بهذا العائق حين سطّر مذكرة التوقيف ضدّ بوتين، وضرب صفحاً عن حقيقة أنّ روسيا كانت قد انسحبت من عضوية المحكمة في سنة 2014، احتجاجاً على قرار الجنائية اعتبار ضمّ القرم «عدواناً متواصلاً».

لا أحد، أيضاً، يتجاسر على استذكار ما ارتكبت ديمقراطيات غربية بيضاء من جرائم حرب ومجازر في أفغانستان والعراق، أو ما يرتكب كيان الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني العنصري من فظائع في فلسطين. وليست مفارقة، ولا هي نكتة ثقيلة الظلّ، أنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي حثّ خان وقضاته على التحقيق في انتهاكات الجيش الروسي خلال اجتياح أوكرانيا؛ هو خليفة رئيس أمريكي يدعى دونالد ترامب، عمد في خريف 2018 إلى إبلاغ الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنّ المحكمة لا شرعة لها ولا شرعية ولا سلطة في الولايات المتحدة، كما فرض قيوداً وعوائق تأشيرة على موظفي المحكمة لأنهم تجرأوا على مجرّد التفكير في ممارسات أفراد أمريكيين على أرض أفغانستان.

وذات يوم حُقّ لدكتاتور السودان، الفريق عمر البشير، أن يتباهى باستسلام الجنائية الدولية أمامه، برفع الأيدي كما قال؛ وأسبابه في تلك المباهاة لم تقتصر يومئذ على عودته من جنوب أفريقيا إلى السودان، سالماً آمناً مسلّحاً بعصا المارشالية الشهير؛ بل كذلك لأنّ بنسودا قررت حفظ التحقيقات في جرائم دارفور، وأحالت الملفّ إلى مجلس الأمن الدولي (كما فعلت سابقاً، مراراً في الواقع، لأنّ السودان، قبل كينيا وجيبوتي ومالي والكونغو وتشاد، لم تتعاون مع المحكمة في القبض على البشير).

ولعلّ خان يستعيد بعض تفاصيل جولته السودانية مطلع هذا العام، قبل تناطح الجنرالَين، وكيف غلبت اللباقة الدبلوماسية على تصريحاته، وغابت عنها حكاية التاريخ الذي يتكرر؛ خارج أيّ قوس معوجّ لمحكمة لا تُعنى بالعدالة، ولا تشرّف التسمية.

وسوم: العدد 1041