إلياس خوري «الفلسطيني»
اعتاد القراء أن يُقدم لهم مقال الأستاذ والروائي الياس خوري عبر صفحات «القدس العربي» كل يوم ثلاثاء، هذا الأسبوع سيكسر هذا الروتين الجميل، والأسباب صحية ترتبط بمرضه، الذي نتمنى له التماثل بالشفاء، وكنوع من المفاجأة أحب مجموعة من قرائه ومتابعيه وأصدقائه الفلسطينيين الكتابة له وعنه، كتابة تؤكد حضوره في الحدث والمشهد الفلسطيني، وفي أدق تفاصيله، وفي أشد اللحظات صعوبة، كتابة كلها أمنيات بالشفاء العاجل، كتابة تضعه في إطار الحب الفلسطيني له، في مخيم جنين ونابلس وسجون الاحتلال التي لا يغيب فيها اسمه.
الياس خوري: اللبناني الذي كتب المأساة الفلسطينية روائيا
لم أقابل الروائي والكاتب إلياس خوري، ولكني في السنوات الخمس الأخيرة تحدثت معه عبر الهاتف غير مرة، وتوطدت صداقتنا التي نشأت عبر الكتابة. قرأت الياس كاتب مقال نقدي عبر كتابيه «الذاكرة المفقودة» و»دراسات في نقد الشعر» وتابعت سلسلة «من تجارب الشعوب» التي كان يشرف على إصدارها، فتعرفت على روائيين عالميين نقلوا إلى العربية منهم كارلوس فونتيس وغينوا اتشيبي وغابرييل أوكارا والمغربي عبد اللطيف اللعبي، الذي كتب سيرته بالفرنسية، ثم عرفته روائيا منذ عام 1985من خلال روايته «الجبل الصغير»، وفي عام 1993 قرأت له «مملكة الغرباء»، ولما صدرت «باب الشمس» في 1998 كتبت عن صورة اليهود في الروايتين الأخيرتين. عندما صدرت «باب الشمس» كتب عنها الشاعر المرحوم أحمد دحبور وعدّها، إن لم تخنِ الذاكرة، رواية المأساة الفلسطينية التي لم يكتبها روائي فلسطيني من قبل. صار نتاج الياس خوري منذ «باب الشمس» في صلب اهتمامي، وصرت أتابعه متابعة حثيثة أرصد موضوعاته وأسلوبه وأربط لاحقه بسابقه، لدرجة أن التفت هو شخصيا إلى هذا ففاجأني ذات صباح جمعة باتصال هاتفي امتد ساعتين يحاورني وأحاوره، وأسفر هذا الحوار عن صدور كتابي «أسئلة الرواية العربية: الياس خوري في روايته «أولاد الغيتو: اسمي آدم» نموذجا 2018.
صار مقال الياس خوري في «القدس العربي»، يوم الثلاثاء، وافتتاحياته لمجلة «الدراسات الفلسطينية» جزءا من طقوسي الصباحية، وعندما أصدر الجزئين الثاني والثالث من «أولاد الغيتو»، نجمة البحر ورجل يشبهني، تابعتهما متابعة حثيثة وتواصل الجدل بيننا. غالبا ما ذهبت إلى أن الياس وأدبه متلاحمان معا بحيث يصعب فصلهما عن بعضهما، وعندما احتار مؤلفه الضمني آدم دنون في تجنيس ما يكتب، وهي حيرة الياس نفسه، تبرعت بتقديم وجهة نظري. الياس خوري قرأ القضية الفلسطينية تاريخا وأدبا ومجتمعا، وعرف اللاجئين الفلسطينيين وزار مخيماتهم ودخل إلى بيوتهم وتناول طعامهم، وتجول في المدن الفلسطينية عبر مشاهدة أشرطة فيديو، وهذا كله جعلني أعده فلسطينيا، حتى إنني تساءلت مرة تساؤلا أزعج بعض الكتاب الفلسطينيين وهو: هل نعتبر الياس خوري العلامة الرابعة في الرواية الفلسطينية؟ إشارة إلى كتاب المرحوم فاروق وادي «ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية: كنفاني وحبيبي وجبرا». الياس خوري روائي كبير ومثقف ملتزم لا يستطيع المرء إلا أن يحترم جهوده ويقدرها، فهو يولي البعد الجمالي في ما يكتب عناية كبيرة، ما يمنح ما يكتب قيمة أدبية جمالية بالإضافة إلى القيمة التاريخية الاجتماعية الإنسانية.
لالياس خوري أتمنى الصحة والعافية والسلامة.
- عادل الأسطة/ كاتب فلسطيني
عاشق المخيم
صباح الخير أخي وصديقي وأستاذي الياس خوري، واسمح لي أن أقول هذه الكلمات بحقك وهي قليلة على مقامك وقدرك: الياس خوري، هذا الرجل اللبناني الأصل، فلسطيني الانتماء والهوية، رفيق المقاومين وملهمهم، رفيق درب العظام من الثوار، الياس الإنسان المتواضع، الأكاديمي المثقف، القاص الروائي، والناقد والكاتب المسرحي، والأهم الفدائي الحر، رجل الوحدة والكلمة الجريئة المقاتل الجريح في معارك الثورة في مواجهة الاحتلال. الياس خوري رفيق مخيم جنين ومقاتليه منذ عشرات السنوات، رفيق الخيمة والفقراء والمضطهدين، الياس خوري الذي لا يترك يوما أو هجوما صهيونيا إلا ويتواصل معنا مطمئنا علينا، ومؤكدا لنا وحدة المقاومة، ومفتخرا بالمقاومين والفدائيين، يتابع معي التفاصيل العامة في المخيم، وكم أكون سعيدا عندما يتحدث معي بلهجة الأب القلق على ابنه أو أخيه الصغير، ضحكاته تبث الأمل والإرادة والسعادة، لهذا الاهتمام من رجل فدائي استثنائي جريح في معارك بيروت جمع العلم والعمل والأهم الثبات في مواقفه، رافضا كل إغراءات الدنيا لإنه كان يرى فلسطين ولبنان والأمة العربية أكبر وأهم من شخصه. لقد فتح لنا «باب الشمس» على مصراعيه وتحدث عنا كلاجئين وشعب فلسطيني بطريقة لم يكتب عنها أحد، لأنه عاش في زقاق وحارات المخيم، وعاش معاناته وظلمه وجرحه وألمه وأمله بالعودة. الياس خوري الذي كان دوما يطمئن على مروان البرغوثي وعن أحواله ويكتب عنه وعن أمله في أن يكون أسيرا ورئيسا لشعب أسير، كما كان يسألني عن حال زكريا الزبيدي وهو صديقه الشخصي، وهو المطارد والملاحق، وعن حاله في السجون. وعندما حفر زكريا ورفاقه «نفق جلبوع» لم ينم أخي الياس، وتابع معي بشكل لحظي بلهفة، وكأنه ابنه، لقد كان يسألني: هل وصل زكريا زبيدي إلى مخيم جنين أم لا؟ الياس رجل غريب في زمن عجيب لا يتوقف عطاؤه أبدا، يفكر ويخطط ويتابع ويقاتل، يبث الأمل، صديق قريب للمقاتلين، رغم عدم اللقاء بهم.
وعندما قرأ خوري رسالة الماجستير بعنوان «معركة مخيم جنين» قال لي: « شعرت بأنني كتبتها شخصيا، وأريد طباعتها في مؤسسة الدراسات في السرعة القصوى، وكان هذا الكلام والشعور والاهتمام مصدر فخر لي، ولمخيم جنين ولمدينة جنين، ولكل المقاتلين الفدائيين الأحرار. الياس خوري الذي كان دوما يختتم مكالمته معي: «بالله يا أخي دير بالك على الشباب، ودير بالله بالك على حالك»، وكنت أقول له: «أخي الكبير والحبيب.. لقد عشقتك وعشقت روحك وخفة ظلك وحبك واهتمامك بنا». هنا اسمحوا لي أن أخاطب الياس: «وينك يا خيي، نحن بحاجة لسماع صوتك، بحاجة لأخبرك ماذا حصل في معركة مخيم جنين 2023 كما أخبرتك ماذا حصل في معركة مخيم 2002، بحاجة أن أقول لك بأننا والفدائيين ما زلنا على جاهزيتنا وإرادتنا رافضين للذل والاضطهاد والاحتلال، يا خيي الياس.. والله بنحبك كثيرا وسلام لك من مروان وزكريا وفاروق وكريس وحنا وعبد السلام، وكل الأسماء الجميلة الموحدة في الميدان، دمتم بألف خير يا حبيب، ولنا لقاء أكيد قريب في كنيسة المهد والقيامة وفي المسجد الأقصى، وفي بيروت توأم الروح لنا كمقاتلين ومقاومين.
- جمال حويل عضو المجلس الثوري لحركة فتح
«هي يا الياس»
يفترض أن يقرأ الروائي والكاتب «الفلسطيني» الياس خوري هذه الكلمات صباحا، عندما يفيق من نوم قصير، ولعلنا نقول له صباح الخيرات يا ابن المخيم، حتى لو لم تكن لاجئا، نقول لك: صباح الخيرات على جرحك الذي نأمل أن يتماثل للشفاء سريعا.. لتعود إلينا وإلى القراء والمحبين والمعجبين، وهم كثر على الأرض التي تمرض ولكنها ترفض أن تموت. نقول لك صباح المخيم الذي يفيق كل يوم على أمل الانتظار.. هذا الانتظار الذي تؤمن به كما نؤمن نحن بفلسطين.
«هي يا الياس» (نقولها لك بالعامية) نريد أن نقول لك إن من أكثر أوجاع المخيم هو تراجع المؤمنين بقضيته، لكنك لا تنتمي لهؤلاء أبدا.. حيث تقدم لنا كل يوم ما يجعلك نموذجا يلهمنا جميعا ويعزز من ثقتنا بقضيتنا.. ويسعدني أن أقول لك ببساطة إنك «إنسان محترم» وهذه الجملة عندما نقولها نحن في مخيم جنين فهي تعني مديحا كبيرا وكثيرا.. وكلنا نؤمن بأنك تستحق أكثر من هذا المديح. واسمح لي أن أقول لك ببساطة الفلاحين «أنت على رؤوسنا»، ونحن من المخيم، الذي يرفض أن يموت ويجاهد يوميا كي يفيق من آثار غزوات المحتلين، نتمنى لك الشفاء. نقول للروائي الذي نتمنى أن تكون غرفته في المستشفى قريبة من البحر إن الحرارة في مخيم جنين عالية جدا، مرتفعة جدا، فجنين فرن ضخم ساخن ومشتعل في فصل الصيف، وفيها رطوبة البحر الذي نمنع من الوصول إليه، والمؤكد إنك تعلم جيدا أن البحر قريب جدا من المدينة ومخيمها، وكل الذين يعيشون في المدينة ومخيمها يحبون هذا البحر تحديدا، ويحبون اهتمامك بهم أيضا، فهم يرون اهتمامك بالأسير زكريا بمثابة اهتمامك بهم، إنه رمزهم الذي آمنت بموهبته كمقاوم، وبمهارته كباحث. وأخيرا، نقول للروائي المريض، بالشفاء العاجل والدائم.. فأنت مثل المخيم، تمرض ولكنك لن «تموت»، وهذه حقيقة راسخة بالنسبة لأهل فلسطين تحديدا.
- عبد الرحمن الزبيدي/ شقيق الأسير زكريا الزبيدي
“أولاد الغيتو”
كانت الرواية البكر التي تلقيتها في بداية درب غربتي الجديدة في سجون الاحتلال الكولونيالي الصهيوني هي رواية «باب الشمس» للأديب الياس خوري. وكانت صفحات الرواية التي جلبها لي أبي الراحل من خلال زيارته لي في سجن هدريم الكولونيالي في مطلع عام 2005 مضمّخة بعطره الزكي.. عند ذاك لم أكن أعلم أن خوري وأبي من مواليد العام ذاته، أي عام نكبة 1948.
ثمة علاقة وجدانية مفعمة في اللغة السرّانية تجمعني بإلياس خوري، الذي أطلقت عليه «عبقري الرواية العربية»، رغم أنني كنت في بداياتي الأدبية المتواضعة منهمكا بالتجول، حالما بأنني شاعر في دواوين محمود درويش هاربا إلى الشعر من سرديات خوري المتحدية وقدرته الخلاقة على إدراك فلسطين المنكوبة في سردية ومشهدية روائية استحالت قرية مقاومة فوق أحد التلال المطلة على القدس الأبية، وذلك حين قامت مجموعة من المقاومين والمقاومات ببعث الحروف والكلمات وأنفاس خوري السردية ومقامات العشق الخاصة ببطلي الرواية نهيلة ويونس فوق ذلك التل، لتلد المغارة شمس حرية مست السردية الفلسطينية بدفئها. إذ هو دفء خوري المستمد من دفء حكايات النكبة وويلاتها، لتغدو معه الحكاية ليست حكاية نقد ورثاء وعويل بل حكاية ذاكرة حية.
وما أن تسلقت مطالع محمود درويش الشاهقة حتى أشرفت من على شاهقها على فضاء السرد، مدركا مدى حاجتنا نحن الفلسطينيين إلى إثراء وتعزيز وتسليط الضوء على حكايتنا، فحلقت في فضاء خوري لاكتشف بعد رحيل أبي في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2016 أن ثمة أبا آخر لي هو الأب الروائي الياس خوري.
غير أنني كنت ولم أزل أخشى من الوقوع في حبائل محاكاته وتقليده وأن تجذبني لغته، فنأيت بنفسي عنه رغم قراءتي تحديدا لرائعته «كأنها نائمة» مرارا، إلى أن صفعتني سرديته ثنائية «أولاد الغيتو» التي لم تصلني ثالثتها بعد، فقلت لم لا، مؤكدا لعنترة سؤاله المعلق فوق إجابته: بلى لقد غادر الشعراء من متردم.
خذ بيدي يا الياس خوري ودلني إلي، وإلى حكايتي، وكن رؤوفا بي عندما تعلمني الدرس الأول القاضي بأن الكون أرحم وأجمل، وأن الرواية معادية للإقصاء والعنصرية والحقد، الرواية مرايا، والمرايا أقنعة، والأقنعة حروف وكلمات وجمل وفقرات وفصول وامرأة، امرأة تلدك تارة وتلدها تارة أخرى.
لينتابك أكبر قدر ممكن من الجنون والتهكم والحزن والأحلام والنساء والفراشات، ولكن لا تكني، بل كن أنت، لا أقل ولا أكثر، لأجيبه الآن: «سأكون ما أريد، كما تريد». ولكن أرجوك، لا تمت الآن، مت بعد قليل، بعد أن التقيك في قصيدة بيروتية درويشية فلسطينية، بعد أن تعلمني الأسماء جميعها، بعد عام.. بعد عامين، بعد جيل.
- الأسير باسم خندقجي/ سجن نفحة الكولونيالي
وسوم: العدد 1043