قراءة في (معارج) الشاعر :مصطفى عكرمة
في عصر ارتكست فيه فطرة الكثيرين ، و انتكست إرادتهم ، و كثر الهبوط و الالتصاق بقاع السفاسف ينبري شاعرنا (مصطفى عكرمة)* ليرتقي بالنفوس !و كانت وسيلته تلك المعارج التي يحض من خلالها على التسامي و الصعود .
فهذه المعارج تود من الناس أن يعودوا إلى الله بعد شرود عن منهجه ، و بأصحاب الهمم الضعيفة أن يرتقوا ، و لو كان في الارتقاء صعوبات و صعوبات ، و من الأمة جمعاء أن تتبصر بحقيقة وجودها ، و عظمة الرسالة المنوطة بها و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون ؟!
في هذا الجزء الأول من الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر تستوقفنا محطات كثيرة .
ففي المحطة الأولى (إلى الله ) يدعونا لنفر منه إليه ، و نتفيأ ظلال الرحمة ، مرددين معه :
إلهي ضاق بي الرَّحبُ و أثقلَ كاهلي الذَّنبُ
و نارُ هواجسي اتّقدتْ و مَلَّ أزيزَها اللبُّ
و غار النورُ في عَيْنِي و أيقظَ جندَه الرُّعبُ
و نفسي لم تَعُدْ نفسي و قلبي .. ليته قلبُ
وهِمتُ هنا على وجهي و ضِعتُ و ضاعت الدرب
و لكن هذا كله ينجلي في لحظة صدق ، و صحوة قلب نجوتُ - غداةَ - يا ربي علمتُ بأنك الرَّبُّ
و أما في قصيدته (بسطت يدي ) فشكوى صادقة لا صحوة عابرة :
عليكَ توكلي في كل أمري
فَيَسِّرْ لي بحقك كلَّ أمري
و صدري يا إلهي ضاق صدري
بهَمِّي ، فاشرحِ اللهم صدري
إلهي و اكشف اللهم ضري
فليس سواك من يرجى لضُـري
و حاشا لله لو أتاه العباد نادمين مقربين أن يردهم ، و قد فتحت أبواب : ألا هل من مستغفر فأغفر له ؟!
و نلج مع الشاعر محطة (نجاوى) إذ تطيب المناجاة
لكَ حينما لذَّ المنامَ أقومُ
و غداةَ طاب لي الطعام أصومُ
و تَعاف نفسي ما يلـذُّ تقرُّباً
لكَ فاعفُ عنها .. أيها القيومُ
فاغفر و تُبْ ، و امنُنْ إلهي و استجِبْ
يا مَنْ إليك الأمرُ و التسليمُ
و يسكن القلب ، و تقرُّ العين ، و يأنس الخاطر ، و تهب نفحات الرضا ، فيجدها المؤمن انشراحاً في الصدر و لذة في الذكر و قد سمى الشاعر ذلك ( فيض الأنس ) :
وجدتُـك يا إلهي في فؤادي
فما عانيتُ يوماً من سهادِ
نزلتَ بخافقي بشرى و نُعمى
و طمأنةً جنيتُ بها مرادي
فصِرتُ أعزُّ مَنْ في الأرض لما
عليكَ غدا أيا ربُّ اعتمادي
و هذا الفضل الذي يتقلب فيه الشاعر ، و تلك النعم التي يرغد فيها ، كان سبيلها الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه و سلم الرحمة المهداة و قد بلغ الرسالة ، و أدى الأمانة ، عرّفنا بالله حقاً فسلكنا سبيل الهدى و الفلاح:
خيرُ الخلائق في الزمان محمد
فبحبه تصفو النفوس و تَـسعدُ
هو رحمة للعالمين على المدى
و سبيله النهج القويم الأرشدُ
بهداه نال العالمون نعيمهم
و بهديهِ أهلُ الضلالة قد هُدوا
لولا هدايته لظلتْ أمتي
تشكو الضياع ، و للحجارة تسجدُ
فبحبه و حملِ رسالته التي أنقذت أمتنا يتجدد الأمل ، و قد نبتت لهبل و اللات نابتة ، و أطلت برأسها زخارف الإفك و الشيطان ، و أمست البشرية تتلفت إلى منْ ينقذها ؟!
و في أيدينا - لو صَحَّ - منا العزم و النية - ما يرد قلقها ، و يحول ضياعَها إلى رشد و سعادة :
يا أيها الهادي إلى الرحمن
ما زال شرعُكَ منقذَ الأكوان
ما قلتَه حقٌّ أقـرَّ به العدا
لم يختلف في الحق فيه اثنان
لو حكَّموا ما جئت للدنيا به
لرأيتَ كلَّ الكون في اطمئنان
و لزال من عيش الأنام شقاؤُه
و لعاش كلُّ الخلق في رضوان
و لما كان حبه ، و حب ما جاء به دليل الإيمان به و بدينه فقد ظل حبه صلى الله عليه و سلم حياً في ضمائر الأمة ، و صدق من قال :
إن الرسول لحيٌّ في ضمائرنا
على الزمان يرى منا و يستمع
و يتردد صدى هذا الحب في معارج مصطفى عكرمة فيقول :
حـبُّـكَ السعدُ و المنى و الأمان
يا رسولاً عزَّتْ به الأكوانُ
بكَ تمّتْ رسالـةُ الله للكـــ
ــون ، و نالتْ نعيمَها الأزمانُ
و اطمأنَّ الأنام ، لم تَـشْقَ روحٌ
كيف تشقي و في هداك الضمانُ
و يستمر الحق في مسيرته ، و لا ينقطع مدد الخير ، و تمضي الأمة في كل عصر و مصر على سنن الهدى ، و يهيئ الله لها رجالا يستنون بسنة نبيهم ، و يصلحون ما أفسد الناس ؟!
يجددون للأمة أمر دينها ، و يحيون فيها يقينها و قد قال عنهم كتاب الله (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ))
و يقف الشاعر في محطة (رجال) ليجد فيها ماضياً و حاضرا سلسلة لم تنقطع ، يبرز فيها قائم لله بحجة ، كما في خطابه لبلال مؤذن الرسول صلى الله عليه و سلم :
أأبا اليقين و أنت فيه لم تزلْ
فرداً تبارك ذكرَه الأجيالُ
سَوّاكَ ربُّـكَ للثبات على الأذى
مَثَلًا به تتجسد الأمثالُ
(أُحُدٌ) بها ناديتَ تصفع كبرَهم
فاصّاغروا ، فإذا الرجالُ نِمالُ
و كما عرفت الأمة للسابقين فضلهم عرفت للتابعين بإحسان قدرهم ، و منهم الشيخ عبد القادر الأرناؤوط أحد فرسان السنة من المحققين المتميزين في عصرنا :
يا خادماً سُـنةَ المختار في زمني
لأنتَ بالحق في الدارينِ أنتَ غني
و هبتَ عمرَكَ تمحيصاً لها أبداً
و عشتَ عمرَك تقفو أكرمَ السَّننِ
شغلتَ قلبك بالوثقى و عشتَ لها
و لم تحِدْ ساعةً عن نهجكَ الحسَنِ
لحكمةٍ شاءَكَ الرحمنُ حارسَها
فكنتَ فيها عليها خيرَ مؤتَمَنِ
و يمضي الشاعر يعرج في مرتقاه ، و تشمخ في ديوانه شتى الفضائل يصورها يراع متمكن ... و لكن يؤلم النفس أن أمثال مصطفى عكرمة ذا الشاعرية الفياضة المتدفقة الحكيمة المؤمنة لم يعط حقه ، و أعطي غيره أكثر مما يستحق ؟! فلو أن النقاد الذين تغافلوا عنه نظروا إلى ما فوق رؤوسهم لرأوا كيف يكون التسامي لغة و مضموناً و صوراً و إيقاعاً في معارج مصطفى عكرمة .. و لعل قصيدة (لمن) تلخص هذي المعاناة ، و تختصر ما نريد قوله :
لمن أذوّب نبضَ القلب أشعارا
و لا أرى صاحباً يصغي و لا جارا
أرسلتُ شعري لمجد الحق منتصراً
و ما وجدتُ لمجد الحق أنصارا
أعمَتْ لذائذُ فاني العيش أعينَهم
فلا يبالون مهما حولهم صارا
فكيف بالقلب لا ينساب أشعارا
و كيف لا أرسل الأشعارا إنذارا
لكل حر سأبقى العمر أرسله
عسى أرى كلّ حرّ في الورى ثارا
و حسب شعريَ أن تلقاه صاعقـةً
على الطغاة ، و للأحباب أزهارا
_____________________________________________________________________
* صدر الجزء الأول من الأعمال الشعرية الكاملة في 716 صفحة من القطع الكبير
عن (مكتبة العبيكان) - الرياض - المملكة العربية السعودية - ط 1 عام 2005
* مصطفى عكرمة : شاعر سوري ولد 1943 م في قرية (بابَنـّا) شرقي اللاذقية له عدد من الدواوين الشعرية ، و هو عضو في اتحاد الكتاب العرب و رابطة الأدب الإسلامي العالمية .
وسوم: العدد 1062