هل يمكن الجمع بين التضامن مع غزة والاحتفال برأس السنة الميلادية؟
لو طُلب مني القيام بتصنيف لأنواع الاحتفالات، لاختزلتها في صنفين انطلاقا من المرجعية المؤطرة لها والأهداف المتوخاة منها، الصنف الأول ذو مرجعية لا دينية أو لِنقُل عبثية، ينحصر هدف المنتمين لها في الجانب المادي المحض المرتبط بالإقبال على الشهوات، ومباهج الدنيا دون قيد أو شرط، بما في ذلك اقتراف كل أنواع المحرمات والموبقات، مع العلم أن عددا من المحسوبون على الدِّين يندرجون ضمن هذا الصنف، أما الصنف الثاني فذو مرجعية دينية يهدف المنتسبون إليها بالأساس، إلى التقرب من المعبود الذي تُقره كل مرجعية على حذا.
فإذا كان الناس في الصنف الأول يحتفلون بمناسبة وبغيرها، حتى أن عددا كبيرا منهم ينخرطون في احتفالات لا تَمُتُّ لا لحضارتهم ولا لثقافتهم بصلة، هَمُّهم الوحيد، في حالة الغياب الكلي للوازع الديني لديهم، العبث وإشباع الشهوات، حلالها وحرامها دون تمييز، فيما يجتهد بعضهم من الذين لم تتلوث فطرتهم بما يكفي، في إيجاد المبررات والتراخيص لممارسة هذا النوع من الاحتفالات، قلت إذا كان هو شأن الناس في الصنف الأول، فإنهم في الصنف الثاني يتوخون، بل يجب عليهم، الالتزام بضوابط وتشريعات الديانة التي يعتنقونها. فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر "الديانات" الثلاث، الإسلام والنصرانية واليهودية في سياقها الحالي، فإننا نجد أن كل واحدة منها تتميز بخصوصيات تنفرد بها عن غيرها، غالبا ما لا تسمح للملتزم بها مشاركة غيره في احتفالاته الدينية، دون الإخلال بضوابط ديانته الأصلية، فهل يمكن للمسلم الملتزم مثلا أن يحتفل بالهالوين، أو بعيد الفصح اليهودي، أو باحتفال "مانيني الإندونيسي" الذي يتم خلاله نبش القبور، وإخراج جثث الموتى التي يحتفلون بها عبر مجموعة من الطقوس، قبل أن يتم إرجاعها إلى قبورها، دون الإخلال بضوابط الشريعة الإسلامية؟
وبما أن المجتمع المغربي مجتمع مسلم، فلا حاجة للتذكير بأن من بين الضوابط الأساسية التي يتعين الالتزام بها في احتفالاته، عدم اقتراف المحرمات كبيرها وصغيرها، بالإضافة إلى مجموعة من الآداب التي تتوخى الانسجام داخل المجتمع، أهمها احترام خصوصيات الآخرين ومشاعرهم. فليس من أخلاق الإسلام في شيء أن يقوم شخص أو عائلة بالإشهار المفرط لمظاهر الفرح والانبساط، من موسيقى صاخبة، ورقص وما إلى ذلك من مظاهر الاحتفال المفرطة، التي غالبا ما تكون سببا في إزعاج الجيران حتى في الحالات العادية، بغض النظر عن طبيعة الحكم الشرعي فيها، وما بالك في الحالات التي يُصاب فيه أحد الجيران بمصيبة الموت على سبيل المثال، أليس المطلوب، وهو ما كرسته العادات السليمة، مواساته ومؤازرته بما يتطلبه الموقف؟ ولو بالكف المؤقت عن الإعلان عن مظاهر البهجة، إلى حين هدوء مشاعره؟ وفي هذا الصدد يقول ابنُ القيمِ رحمه اللهُ، موضحا قيمة المواساة في معناها الواسع: مواساة بالخدمةِ، ومواساة بِالنصِيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار، ومواساة بالتوجع لهم، والتألم لهم، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم ويتوجع بوجعهم، وعلى قدر الإيمان تكون المواساة فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة وكلما قوي قويت.
ولا شك في أن ما شهده الشارع المغربي، ولا زال يشهده من مسيرات مليونيه، يندرج ضمن مواساة ومؤازرة الشعب الفلسطيني عامة، وأهل غزة على الخصوص، خاصة إذا استحضرنا روابط الدين والعروبة والتاريخ، التي تربط المغاربة بفلسطين وأهلها، بل وحتى الروابط الإنسانية التي حركت أحرار العالم أجمع، للتنديد بجرائم الكيان الصهيوني الغاصب. والسؤال الذي يُطرح على كل المتشبعين بأخلاق المواساة والمؤازرة هو: هل يكفي أن نشارك في تظاهرات التنديد، ثم نعود لممارسة حياتنا "العادية" بما فيها الاحتفالات، دون استحضار المجازر اليومية التي لم تتوقف منذ السابع من أكتوبر الماضي، ودون التفكير في أساليب تغيير هذا المنكر، الذي فاق كل المنكرات في إبادتها للأبرياء، ونحن نتدبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". ألا يقتضي العمل بهذا الحديث تجسيده ولو في أدنى مستويات التغيير، المتمثل في شعور المؤمن في قلبه، بكراهة هذا المنكر وبغضه له، وأن يتمنى أن لو قدر على تغييره، وأن يناله حزن وهم لعدم قدرته على تغييره، مما يتطلب الاستحضار الدائم لمحنتهم والدعاء لهم في كل وقت وحين، وفي الصلوات على الخصوص، تجنبا للسقوط في الرتابة والنسيان اللذان يهدف إليهما العدو الصهيوني. ولعل موقف الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري أستاذ اللسانيات، الذي وجه رسالة مفتوحة إلى العالم، من بين أهم ما ورد فيها حسب جريدة هسبريس الإلكترونية أذكر ما يلي: "لن نحتفل حتى نحتفل بتحرير فلسطين خاصة بعدما انفضح الصهاينة بوحشيتهم ودهسهم للأخلاق والحقوق والقوانين الإنسانية الدولية"، ثم "على دولنا وحكوماتنا مسؤولية إعلان الحداد على ما يجري في غزة وفلسطين، وألا توفر الأمن والاستقرار والتعاون مع إسرائيل، إلا إذا توفر الأمن والاستقرار والتعاون مع أبطال غزة وفلسطين"، ولا شك أن الدعوة إلى الحداد تندرج في إطار تغيير المنكر بالقلب، خاصة وأن الحداد معمول به لدى مختلف الأمم والشعوب كلما أصابها مكروه، بحيث نجد أن من الدول من تعتمد الحداد عند موت زعيم أو رئيس أو عالم، لمدة قد تطول أو تقصر حسب ما تقتضيه ثقافتها، وأعرافها ،مع العلم أن الحداد في الإسلام لا يتعدى ثلاثة أيام، ما عدى حداد الزوجة على زوجها الذي حدده الله جل جلاله في الآية 234 من سورة البقرة: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾.
من منطلق تغيير المنكر بالقلب لا غير، ومن منطلق وجوب الحداد الذي لا يمكن حصره بحل من الأحوال في ثلاثة أيام، ما دامت مصيبة الموت والتقتيل تصيب إخواننا يوميا بالعشرات والمئات، فلا يحق لمن يُحسب على العروبة والإسلام، ولا على الذي يعطي قيمة للأخوة الإنسانية من بني البشر عامة ومن المغاربة خاصة، أن يحتفل لا "بالكريسمس" ولا برأس السنة الميلادية، بغض النظر عن النقاش الكلاسيكي الذي يريد أن يميز بين الاحتفالين، علما أن المحتفلين بهما لا يتورعون عن اقتراف كل الموبقات والمحرمات. وإنه لمن العار أن يحتفل مغاربة بهاتين المناسبتين، في هذا الوقت بالذات، مع العلم أنه وُفرت لهم كل الظروف الأمنية الملائمة، كما أنه من الخسة والدناءة احتفال إحدى الدول العربية برأس السنة، باستعمال الشهب الاصطناعية، وما يرافقها من إسراف وبذخ كأن شيئا لم يكن، وهذا في الوقت الذي منعت فيه باكستان على سبيل المثال احتفالات رأس السنة، كما تم توزيع مناشر في بلدان غربية تحرض الناس على عدم الاحتفال بالكريسمس، وعدم اقتناء مواد الشركات المؤيدة لإسرائيل.
في الأخير أقول للذين يريدون الجمع بين الاحتفال برأس السنة الميلادية وبكل مناسبة تندرج في حكمها، وبين الخروج في مظاهرات التضامن مع غزة، بأن الأمر لا يستقيم لا عقلا ولا شرعا، لأن كلاهما يُقر قاعدة "الثالث المرفوع" إضافة إلى الإقرار بعدم إمكانية توفر الإنسان على أكثر من قلب واحد، مصداقا لقوله تعالى في الآية 4 من سورة الأحزاب﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾صدق الله العظيم.
وسوم: العدد 1064