لن تنهض أمة الإسلام إلا باجتماعها على كلمة واحدة ولن يحصل ذلك إلا باجتماع علمائها عليها ونبذهم التشرذم والخلاف بصدق ونكران ذوات
مما روى الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " ، فهذه نبوءته عليه الصلاة والسلام الصادقة ، والواقعة حتما . ومفادها أن الله سبحانه وتعالى قد تعهد لأمة الإسلام التي تشهد له بالوحدانية ولرسوله عليه الصلاة والسلام بالرسالة أن يبعث مجددين يجددون لها دينها . وعند التأمل في هذا الحديث ، نجده يتضمن إشارة إلى بعث، وتجديد ، ودين ، وفترة محصورة في قرن من الزمان . أما كلمة بعث ، فلها في اللسان العربي دلالتان ، الأولى هي النشر، والإحياء بعد موت ، والثانية هي الإرسال ، وبينهما صلة ، ذلك أن الله يبعث رسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين إلى الناس ليخبرهم عن بعثهم بعد موتهم ، وأما كلمة تجديد، فتدل على إعادة ما أصابه البلى ، وإصلاحه، وترميمه كي تعود له جدته . ومعلوم أن دين الله عز وجل الذي هو الإسلام ، لا يطاله البلى ، بل الذي يبلى هو أخذ الناس به الأخذ الصحيح مع تراخي الزمن ، الشيء الذي يتطلب تجديد أخذهم به كما جاء به المرسلون . وعند التأمل، نجد أن مضمون هذا الحديث الشريف يصور مسار البشرية منذ نشأتها الأولى ، ذلك أن من سنن الله تعالى بعث المرسلين إلى الناس بدينه الكامل الذي لا يبلى كلما يبلي أخذهم به الأخذ الصحيح ، وهذا ما يقصه علينا القرآن الكريم ، وهو آخر ما أنزل الله تعالى ليكون خاتمة مسار البشرية قبل نهاية الحياة الدنيا ، وحلول البعث الأخروي . ولقد كان بعث المرسلين في فترات زمنية تختلف طولا وقصرا وفق إرادة الله عز وجل . ولما جاء أوان الرسالة الخاتمة مد الله تعالى فترتها إلى وقت استأثر بعلم مدته ، وأخفاه على الناس . ولما كان عمر آخر المرسلين عليه الصلاة والسلام محدودا ، ولم يجعل الله تعالى عمر رسالته رهينا بعمره ، فقد أوكل بتبليغها إلى الأجيال البشرية المتعاقبة إلى ورثته من أهل العلم كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم : " إن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم ، فمن أخذه ، أخذ بحظ وافر " . ومعلوم أن هؤلاء الورثة هم من أوكل إليهم الله تعالى تجديد الدين للناس، أي تجديد أخذهم به الأخذ الصحيح كما أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاصروه من الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم . ومع تعاقب القرون إلى أجل معلوم عند الله عز وجل ، قيض الله سبحانه وتعالى في كل مائة سنة للناس من يقوم بدور تجديد أخذهم بدينه الأخذ الصحيح ، وجعل ذلك سنته الماضية في الخلق إلى يوم الدين .
ولقد تحدث أهل العلم القدماء عن المائة سنة الواردة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا إن المقصود بها نهايتها وليس بدايتها ، وذلك باعتبار ما مر في الأمة من علماء مجددي دينها كالخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز ،والإمام الشافعي ... وغيرهما رحمة الله عليهم أجمعين . وهذا القول يؤيده ما يحدث للناس من انصراف عن تعاليم دين الله عز وجل مع تراخي الزمن ، وهو ما يقتضي الرجوع بهم إليه رجوعا صحيحا ، وهو تجديد أخذهم به ، وهذا يكون نهاية ، وليس بداية .
ولنعد الآن إلى زماننا هذا ، وهو زمن لا يتناطح كبشان كما يقال في أمر انصراف الأمة المسلمة اليوم عن دينها انصرافا ملحوظا، ولنتأمل حال من أوكل إليهم الله تعالى أمر تجديد أخذها بدينها كما أخبر بذلك سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم من العلماء فإننا سنجدهم طوائف مختلفة ، ومتخالفة ، وطرائقهم قددا في التجديد ـ إن صح أن يوصف بالتجديد ـ ، ففضلا عن انقسامهم المذهبي إلى طوائف سنية وشيعية ، وهي بدورها تتشظى إلى فروع وأقسام بينها من الخلافات الشيء الكثير ، نجد هم منقسمين إلى طائفتين علماء سلطان ، وبلاطات ، وعلماء عامة ومجتمعات ، وبين هؤلاء خلافات ، حيث يتودد النوع الأول إلى ذوي السلطان رغبة ورهبة منهم ، ويسايرونهم في الطرق والأساليب التي يسوسون بها شعوبهم، وإن خالفت تعاليم الدين ، فتنفر منهم الشعوب ، وتفقد الثقة فيهم ، بينما يتودد إليها النوع الثاني ، رغبة ورهبة أيضا ، فيحظون بنوع من الثقة فيها حين يقارنون بالنوع الأول .
وهذا الانقسام بين من أوكلت إليهم مهمة تجديد أخذ الناس بالدين بعد انصراف عنه يعطلها ، ويجعل الأمة بدورها منقسمة على نفسها انقسام علمائها على أنفسهم ، إلا أن هذا لا يعني تعذر تحقق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشرة بتجديد يضطلع به ورثته من العلماء على رأس كل مائة سنة ، وهو تجديد تعرفه الأمة، ولا تنكره من خلال موافقته لما جاء في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهما شاهدا عدل ، من شهدا له من العلماء المجددين كان مصيبا، وثقة عند الأمة ، ومن عدم شهادتهما ، فقد مصداقيته عندها . ولا يكفي أن يكون المجدد عالما وخبيرا بالكتاب والسنة، بل لا بد أن يكون عاملا بهما ، لأن الذي يزكي خبرته بهما، هو هذا العمل الذي يجب أن يكون ملموسا ، ومترجما إلى واقع تطلع عليه الأمة ، أما غيابه ، فلا تجزىء عنه سعة علم وخبرة بالدين مهما بلغ الشأو فيهما .
والمشكل الذي تعاني منه الأمة المسلمة اليوم، هو تعثر نهضتها بين أمم الأرض ، وقد تداعت عليها هذه الأخيرة كتداعي الأكلة على قصعتها ، وهي أمة مع الأسف الشديد كثيرة لكنها كثرة غثاء كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنها فقدت الأخذ الصحيح بدين الله عز وجل ، وهو منهاج حياة ،لا يخرج عن سلطانه مجال من مجالاتها ، إلا أنها صارت تخرج منها اليوم ما تشاء، وما تهوى عن هذا السلطان، وذلك بإيعاز وتأثر بغيرها من الأمم وتقليدها التقليد الأعمى ، وبذلك صارت أهم مجالات الحياة سياسة، واقتصادا، واجتماعا عندها خارج سلطة الدين بزعمها ، وينازعه فيها اللادين بكل أشكاله، وعلى رأسها العلمانية الغربية المتغطرسة ، والباسطة هيمنتها، وسلطتها على جل أقطارالمعمور.
ولقد صار في بلاد الإسلام كل عالم مجدد تجديدا على منهج النبي صلى الله عليه وسلم، يواجه المتاعب من طرف ذوي السلطان الذين أسلسوا قيادهم للتوجه العلماني المهيمن ، والذي يرفض أن يكون الإسلام منهاجا حياة كما جعله الله تعالى ، ووحيه كتابا وسنة شاهد على ذلك شهادة لا يجادل فيها إلا منكر أو جاحد . والعلماء المجددون اليوم القائلون بأن الإسلام منهاج حياة قد أودع بعضهم المعتقلات والسجون، وأبعد بعضهم خارج أوطانهم أو فروا منها تحاشيا لنفس المصير ، أو ساكتون في أوطانهم سكوتا لا يحسن بهم ، ولا يمكن أن يؤهلهم للاضطلاع بمهمة تجديد الدين، والأخذ بيد الأمة كي تراجع أخذها به من جديد، ويكون أخذا يؤهلها إلى نهضة حقيقية ، ترفع رأسها بين أمم المعمور .
ولقد كان العلماء مجددو دينها أو بالأحرى مجددو أخذها به في الماضي ، يتمتعون بما يسمى بلغة العصر " كاريزما " ، وهي هبة من الله عز وجل، تكسب صاحبها القدرة على التأثير في الناس بفضل جاذبيته التي تضفي عليه مصداقية وشرعية وتكسبه ثقتهم . والكاريزما في الإسلام، لا يمكن أن تتأتى لشخص إلا بشهادة شاهدي عدل هما: كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا ضلال مع الأخذ بشهادتهما، والتمسك بهما ،كما جاء في حديثه عليه الصلاة والسلام .
ولقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أصحاب كاريزما بالمفهوم الإسلامي ، وجاء بعدهم علماء مجددون بنفس الكاريزما ،وقد ذكر التاريخ منهم الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز ، والإمام الشافعي ، وغيرهما من الأئمة ، نذكر منهم العز بن عبد السلام رحمه الله، وهو المشهور بسعة علمه، والعمل به والصلابة في الدين ، و الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومناصحة الحكام، كما كان شأنه مع الملك المظفر سيف الدين قطز حيث أفتاه بوجوب صد غزو التتار والمغول لبلاد الإسلام ، فباع هذا الحاكم المنتصح بما نصحه العالم الرباني المجدد، هو ووزراءه كل ما يملكون، وجهزوا بذلك جيشا واجهوا به أعداء الإسلام تتارا ومغولا في معركة عين جالوت الشهيرة ، وقد حاز شرف تحرير بيت المقدس . ولقد كان للعالم المجدد العز بن عبد السلام دور كبير في الذود عن بيضة الإسلام في ظرف عسير، كان فيه مهددا بالزوال .
وما لم يتوفر لزماننا هذا من العلماء المجددين أمثال العز، وبمثل كاريزميته ، فلن تسترجع القدس ، وهي اليوم مهددة بالتهويد ، كما كانت مهددة من قبل بالخراب . ولا بد اليوم لكل تجمع أو رابطة للعلماء أن يجتمع أعضاؤها على كلمة واحدة بصدق و بنكران ذوات ، وأن يسلسوا قيادهم لشخصية مقتدرة كاريزمية، يكون بمقدورها أن تؤثر في الحكام قبل الشعوب كي ينهجوا نهج الملك المظفر سيف الدين قطز ، فيجعلوا هم أيضا كل ما يملكون وسيلة لإنقاذ القدس من التهويد ، والمسجد الأقصى من الهدم والزوال ، وما أكثر ما يملكون ، وما أكثر ما يصرفون على توافه الأمور ، وما أكثر ما يصل منه إلى اليهود. ولا يمكن أن تقصر جهود علماء هذا الزمان عن مرافقة الحكام كما يفعل المترسمون المتخلفون عن مناصحتهم ، وقد أسكتتهم الرسوم التي تصرف لهم عن القيام بواجبهم الشرعي ، وهم يسايرونهم في أهوائهم التي تصب فيما يريده أعداء الإسلام به من كيد وسوء ، وما يريدونه بالأمة المسلمة من زيغ عن نهجه القويم .
ولا بد من كلمة أخيرة موجهة إلى علمائنا ، وهي كلمة الأمة، وليست كلمتي شخصيا ، والأمة مؤهلة لذلك لأنها لا تجتمع على ضلال، وقد خرجت في مسيرات حاشدة ، تستنهض همم حكامها للذود عن بيضة الإسلام الذي يذبح في أرض الإسراء والمعراج، وما أمرها بخاف عن علمائها الذين صم كثير منهم آذانهم عن صراخها . وفحوى هذه الكلمة الموجهة إليهم بلسان الأمة قولها لهم : دعوا الانشغال بالخلافات والاختلافات فيما بينكم ، ودعوا استعراض كفاءاتكم العلمية ومباهاة بعضكم على بعض بها ، ودعوا المزايدات فيها ، ودعوا استعلاءكم بها على عموم الأمة واحتقارها ، ودعوا أساليب تقريع الأمة ولومها دون أن يكون حالكم كذلك مع ولاة أمورها ، ولا تخشوا في الله تعالى لومة لائم ، ولا كيد لئيم ، واجهروا بكلمة الحق مهما كانت الظروف ، وقد قيدتم أنفسكم بالجهر بها لمّا انتسبتم إلى العلم ، ورغبتم في تبوإ مرتبة وراثة النبوة ، وهو ما طوق أعناقكم بمسؤولية جسيمة ، وهي ثقيلة ، وتكون يوم القيامة حسرة وندامة إذا ما ضيعتموها . واعلموا أن ما بينكم وبين الموت شهداء إن شاء الله تعالى أن تفوهوا بكلمة حق عند سلطان جائر ، وذلكم أفضل الجهاد عند الله عز وجل ، كما بشر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ونسأل الله تعالى لكم الثبات إذا ما ابتليتم بما ابتلي به من كان قبلكم من العلماء الربانيين العاملين الذين أوذوا في الله عز وجل ، وعذبوا ،وسجنوا، وقتلوا ، وما وهنوا وما استكانوا في الجهر بالحق مهما عظم جور السلطان ، ومهما اشتد بطشه وطغيانه . واعلموا وفقكم الله عز وجل أن الأمة اليوم ما شتتنها إلا تشتتكم ، وما فرقها إلا فرقتكم ، وما جعلها تستكين لأعدائها إلا استكانتكم وسكوتكم عن إنكار المنكرات ولاة أمورها ، ولن تنهض إلا إذا نهضتم بما انتدبكم إلى القيام به ربكم إذ أورثكم سلطة العلم .
وسوم: العدد 1065