ما موقع المتعلم في ثنائية الحق في الشغل والحق في الإضراب؟
بعد التخبط الذي صاحب معالجة ملف إضراب رجال ونساء التعليم، من خلال المنعرجات التي مر منها منذ مدة ليست بالقصيرة، تم على ما يبدو استئناف الدراسة بشكل من الأشكال، ليبقى السؤال مطروحا بخصوص القيمة المضافة التي أتى بها هذا الإضراب لصالح مختلف مكونات المنظومة التعليمية بشقيها العمومي والخصوصي؟
يظهر من خلال مجموعة من المؤشرات التي يزخر بها الواقع، أن المستفيد الأول هم بعض مكونات الشق الخصوصي، من بينها مؤسسات خصوصية ومجموعة من تجار الساعات الإضافية، وذلك طوال مدة الإضراب. ويبدو أن الأمر سيستمر على ما هو عليه في القادم من الأيام، ما لم تسترجع المؤسسة العمومية بريقها وجاذبيتها، مع العلم أن الخاسر الأساسي في هذا الشق هم آباء الطبقة المتوسطة الذين لم يجدوا بدا من إلحاق أبنائهم بالتعليم الخصوصي، خاصة في هذا الوقت الذي تميز ولا زال بالارتفاع الصاروخي في تكاليف أغلب المتطلبات الحياتية. أما انعكاسات الإضراب على مختلف مكونات الشق العمومي فتبدو لحد الآن كارثية، فلا الحكومة ولا النقابات ولا الأساتذة ولا التلاميذ ولا حتى الآباء والأمهات استفادوا استفادة تُذكر، فالحكومة خسرت هيبتها التي كانت سندا لها في تمرير مجموعة من القرارات دون أدنى معارضة، والتي بدونها لن تستطيع مستقبلا تمرير أي قرار مهما كان ثانويا دون أن تَحسب له ألف حساب، والنقابات فقدت مصداقيتها التي أصبحت في مهب الريح من جراء الاتهامات التي وجهتها لها التنسيقيات، بحيث أصبحت صفة النقابات الأكثر تمثيلية غير ذات معنى، أما نساء ورجال التعليم، فقد تغيرت أولوياتهم من المطالبة بالرفع في الأجور، واستبدال النظام الأساسي بنظام "عادل" إلى المطالبة بإرجاع الأساتذة الموقوفين، والتراجع عن الاقتطاعات التي مست أجور عدد كبير منهم، وهو ما أكده رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان عندما عُرضت عليه الوساطة بين التنسيقيات والوزارة، حيث قال بأن كل ما أمكن القيام به هو الاتصال بالنقابات، التي تم الاتفاق الفعلي معها على أن يكون ملف الموقوفين من الأولويات بالنسبة للنقابات الأكثر تمثيلية، مع عدم التمييز بين منخرطي هذه النقابة أو تلك، وأما التلاميذ فقد خسروا كل شيء، ذلك أن النقص الحاصل في المعارف والمهارات التي كان يُفترض اكتسابها خلال فترة الإضراب، سيؤثر لا محالة سلبا على إلمامهم بمضامين مقررات هذا الموسم الدراسي، وعلى مسايرتهم لمقررات السنوات المقبلة، على الرغم من الحلول الشكلية، على منوال عملية "الدعم" التي تمت "برمجتها" خلال عطلة منتصف السنة الدراسية الحالية، ذلك لأن المُنْطَلَقَ المعتمد غير سليم، ابتداء من المصطلح المستعمل، بحيث لا يكون الدعم إلا بعد إنجاز الدروس، ثم عملية التقويم التي يتم من خلالها تحديد الفئات، وطبيعة الدعم المناسب لكل منها، أما ما عدا هذا فيبدو أنه "تغطية الشمس بالغربال" كما يقول المثل الدارج حتى إذا صدقنا بصحة تصريحات بعض الجهات الرسمية، فيما يتعلق بنسب المنخرطين في هذه العملية، التي لم أعثر لها على مصطلح يتوافق معها. فإذا أخذنا على سبيل المثال بعض ما ورد في بلاغ لإحدى الأكاديميات: "73% هي نسبة المؤسسات المنخرطة في تنزيل البرنامج الجهوي للدعم التربوي، الذي انطلق بداية الأسبوع الجاري بالمؤسسات التعليمية بالأسلاك التعليمية الثلاثة، كما أن حوالي 8670 أستاذا(ة) ومؤطرا (ة) يقومون بحصص الدعم التربوي خلال عطلة منتصف السنة الدراسية." وقمنا بمُساءلة مدلول هذه الأرقام، سنجد أن 27% من المؤسسات لم تنخرط نهائيا، مما يعني أن مصير تلاميذ هذه المؤسسات يبقى مجهولا؟ وأن رقمي 73% و8660 لا معنى لهما في غياب العدد الفعلي للتلاميذ الذين استفادوا من العملية، وطبيعة الاستفادة التي لا يمكن الحكم عليها إلا بعد إجراء عملية تقييم موضوعية؟ ومن المؤشرات الدالة على عبثية هذه الأرقام وعلى أن استعمالها لا يخلو من ديماغوجية، ما جاء في أحد المقالات بجريدة هسبريس، بأن إحدى مدارس الرباط التي شرعت في تقديم دروس الدعم، سجلت "حضور نحو 30 تلميذاً من أصل 198، ومشاركة 3 أساتذة ممارسين من أصل 7 يشتغلون في المؤسسة"، أليس هذا هو العبث بعينه؟ وجدير بالذكر أن إيراد الرقم 8660 للدلالة على كثافة انخراط الأساتذة تُشتَمُّ منه رائحة التشنيع، من خلال ربطه بالتعويض المادي المخصص للمساهمين في العملية، ومن ثم ضرب شعار الدفاع عن المدرسة العمومية في العمق.
أُقَدِّرُ أن المشاكل التي يعاني منها المجتمع المغربي بصفة عامة، والتربية والتعليم على الخصوص، أكبر من أن تتم معالجتها بهذه المراهم الرديئة النوعية، وذات المفعول العكسي، لذا أعتقد صادقا أن هذه الإضرابات وما أفرزته من إشكالات ليست سوى مؤشرات لمشكل ناتج عن تحول عميق وخطير في ثقافة المغاربة دون أن أعمم، ألا وهو سيادة ثقافة المطالبة بالحق في غياب القيام بالواجب، مما ينتج عنه التذبذب في المواقف، وتصيد الفرص للانقلاب عليها.
وقد لا آتي بجديد إذا قلت بأن الحق والواجب متلازمان لا يمكن فصلهما، حتى أن الدكتور معتز الخطيب أستاذ المنهجية والأخلاق بجامعة حمد بن خليفة القطرية يقول في إحدى مقالاته، "للحق مفهوم مزدوج، يعني ما هو "واجب لي" وما هو "واجب علّي"، ما يعني أن الحق والواجب متداخلان، ومن أمثلة ذلك "الحق العام" أو "حق الله تعالى"، إذ يشترك الجميع في وجوب صيانته وفي حق الانتفاع به على السواء"
وإذا كان من مقتضيات "الحق في الحياة" الذي تنص عليه المادة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والفصل 20 من دستور المملكة، الحق في الشغل أو العمل وفي اختيار عمله طبقا للمادة 23 من نفس الإعلان وطبقا للفصل 31 من الدستور، فإن هذا الحق يستلزم وجود طرفين: المشتغل أو العامل والمشغِّل يربط بينهما عقد الشغل، الذي تحدد فيه واجبات، وحقوق كل طرف على حذة، بحيث يكون واجب طرفٍ حقٌّ للطرف الثاني، والعكس بالعكس، فالعامل له حق في الأجر الذي هو واجب المشغِّل، وعليه واجب إنجاز شغل أو عمل بمواصفات معينة، وهو حق المشغِّل، غير أنه في حالة التعليم يدخل حق طرف ثالث، ألا وهو حق المتعلم، طبقا للمادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ينص على أن "لكلِّ شخص حقٌّ في التعليم. ويجب أن يُوفَّر التعليمُ مجَّانًا، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية. ويكون التعليمُ الابتدائيُّ إلزاميًّا" مما يُحتم على الطرفين المشغل والمشتغل، اللذين هما الدولة من جهة، ونساء ورجال التعليم من جهة ثانية، أخذ حق التلميذ بعين الاعتبار، الذي يمكن إدراجه ضمن "الاعتراف الواجب بحقوق وحرِّيات الآخرين واحترامها"، كما هو منصوص عليه في المادة 29 من الإعلان العالمي.
وإذا كان اللجوء إلى الإضراب في حالة إخلال المشغل بأحد بنود عقد التشغيل - بعد استنفاذ وسائل الحوار- يُعتبر حقا بنص الدستور، فإن اعتماد هذا الحق بشكل مطلق في ميدان التعليم بالخصوص، يصطدم بمشكلين أساسين، الأول يتعلق بهضم حق المتعلم، والثاني يرتبط بعدم المصادقة النهائية على قانون الإضراب، الذي يحدد شروط وكيفيات ممارسته، حسب ما هو منصوص عليه في الفصل 29 من الدستور.
في الأخير، وبالنظر إلى ما لَحِقَ حق التلميذ من هضم، سواء تعلق الأمر بمجانية التعليم أو إلزاميته، أو بعدد الحصص المخصصة لكل مادة أو بجودة التعلمات وتوفير الوسائل المساعدة على ذلك... بالنظر إلى كل هذا يبدو كما لو كان هناك تواطؤ، بين الحكومة وبين المضربين، من أجل سيادة هذا الوضع البئيس الذي سَتُتَرجم فاتورته إلى سنوات من التخلف المزمن، وإلا فما معنى أن تتغاضى الدولة عن معالجة الوضعية المادية لرجال ونساء التعليم، وهي تعلم أن هذا التغاضي من بين الأسباب التي دفعت بالعديد منهم للانخراط في تجارة الساعات الإضافية، والتي غالبا ما تصاحبها ممارسات غير تربوية ومنتقصة من قيمة الأستاذ وهيبته، وما معنى أن يتنكر المتعاقدون لبنود التعاقد، الذي قبلوا به ووقعوا عليه باعتبارهم راشدين، ثم تتناسل المطالب الواحدة تلو الأخرى لتعم كل الفئات، بل وتتعداها إلى وظائف أخرى، مع العلم أن فقدان الثقة أصبح العملة الأساسية في تعامل مختلف الأطراف المعنية فيما بينها.
ختاما أقول بأن العامل المادي مهم في حياة كل البشر، ومن ثم فعلى المسؤولين أن يعلموا على أن من واجبهم توفير الحد الأدنى منه لكل المغاربة الذين يشتغلون وعلى رأسهم رجال ونساء التعليم، لكن الأهم منه هو تمكين الناشئة من تعليم مفيد وتربية سليمة، وهو واجب المجتمع ككل، وواجب المسؤولين ورجال التربية والتعليم على الخصوص، الذين يعلمون بلا شك بأن الأجر أجران، أجر في الدنيا وأجر في الآخرة، فطوبا لمن عمل على الجمع بينهما، مع تركيزه على الثاني حتى يستحل الأول، وذلك ببذل الوسع في أداء الواجب على أكمل وجه، وعدم حرمان أي متعلم من "الحق الواجب" في التعلم النافع دنيا وآخرة، مسترشدين في ذلك بحديث الصادق الأمين الذي قال فيه: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسوم: العدد 1068