بسام كوسا… الاكتفاء السوري هو السبب

مقابلة بسام كوسا الأخيرة ليست سيئة تماماً، فلعلها تساهم في إقناع بعض المدافعين عنه، من معارضي النظام السوري، بأن الرجل ليس معارضاً مغلوباً على أمره، وأنه لم يكن مجبراً، ولا حتى محرجاً، عندما قابَلَ رأس النظام، مع (بل على رأس) مجموعة من الفنانين السوريين.

مقابلته (في برنامج يحمل اسم «المنتدى») جاءت ليعلن عبرها بملء الصوت مكانه، وأفكاره التي لم يقدر على بعضها حتى أعتى مؤيدي النظام، فلقد حدث أن كثيرين من هؤلاء المناصرين لم يتمكّنوا من إنكار أسباب السوريين للثورة على النظام، متذرّعين بأنهم اختلفوا فقط على أساليب الاعتراض، لكن بسام كوسا جاء بنظرية ستثقب أعين من تبقى من مدافعين عنه في خندق المعارضة.

إذا صدقتْ نظرية الاكتفاء بالفعل، فهل كان الأمر يحتاج لمؤامرة إسرائيلية بهذا الحجم، بعد أن تكفّلَ «نظام الحزب الواحد، بل العائلة الواحدة ذات الأجهزة الاستخباراتية المتعددة» بنهب العائد القليل من جهد السوريين

قال الممثل السوري، مفسراً ما حدث في بلده في العقد الأخير، إن سوريا كانت قد بلغت حدّ الاكتفاء، تصنّع دواءها بنفسها، بل وراحت تصدّر للخارج بعض المواد من بينها القمح، لكن على ما يبدو، بحسبه، أن من الممنوع لأي دولة محيطة بإسرائيل أن تصل إلى ما بلغته سوريا من الاكتفاء، تماماً كما حدث في العراق، أي أن الفنان يضع كل ما حدث في البلاد برقبة تل أبيب. (هذه عودة إلى حكاية المندسين).

نظرية ليس أسهل من دحضها، حتى من دون العودة إلى إحصاءات وبيانات دقيقة، إذ تعجّ ذاكرة السوريين بوقائع لا تمحى. فمن كان يتصور أن تعاني الجزيرة السورية، على ضفة الفرات، جفاف مساحات واسعة من الأراضي، دفع كثيرين من سكانها للهجرة إلى ريف دمشق نازحين، ولا نزال نذكر تلك المجموعة من الناشطين التي تعرضت لمضايقات فقط لمحاولاتها تقديم بعض الأنشطة الإغاثية لسكان الخيام، من بينها تعليم أطفالهم. من ينسى انهيار سد زيزون، ولن تقول لنا بالطبع إنها مجرد كارثة طبيعية.

ثم من ينسى أحوال دمشق وغوطتها المدمرة بفعل تراخيص البناء العشوائية التي التهمت رئة دمشق، وفاكهتها، ولقد تحول محيط دمشق برمته إلى غابة من العشوائيات المفزعة.

وإذا صدقت نظرية الاكتفاء بالفعل، فهل كان الأمر يحتاج لمؤامرة إسرائيلية بهذا الحجم، بعد أن تكفّلَ «نظام الحزب الواحد، بل العائلة الواحدة ذات الأجهزة الاستخباراتية المتعددة» بنهب العائد القليل لجهد السوريين. إن نظام الأسد نفسه لم يكن مقتنعاً بالاكتفاء، بدليل طلبه من دول خليجية، استجابة لمبادرات تطالب بإجراء قليل من الإصلاحات في البلاد، لأموال يصرفها كرواتب لتنفيس شيء من الاحتقان، الأمر الذي لم يحدث تالياً البتة.

يذكّر هذا «الاكتفاء» بمقال صحافي جاء قبل الثورة في سوريا بأسابيع فقط، ليؤكد ويعلن الأسباب التي تجعل من سوريا حصينة على «الربيع العربي»، و بينها لا شك أسباب اقتصادية. كان المقال علامة كوميدية لا تُنسى في تاريخ الصحافة العربية، ولم يحتج إلا لأسابيع فقط ليدحضه الزمن، لتندلع ثورة في عموم البلاد لها ألف سبب وسبب.

وبالطبع لم يكن الجوع وحده سبباً، فالخوف والنظام الأمني وقمع الحريات والفساد على مختلف المستويات كلها أسباب أقوى وتستحق، حتى لو صدقت مزاعم الاكتفاء.

ثم لنفترض أن السوريين (وغيفاراتهم) ضلّوا عندما استجابوا لمؤامرة كونية، ألا يجد الفنان السوري أن طريقة تعاطي النظام الأمني المتوحش مع المؤامرة كفيلة وحدها بأن تفضح جوهره، هل يحتاج الأمر للتذكير؟

طيب؛ إذا كنا أمام نظام حقق الاكتفاء الاقتصادي المزعوم لبلده، لكنه لم يتورع عن ارتكاب كل تلك المجازر، ومن بينها مجازر الكيميائي، هل تجد الأمر مقبولاً؟!

أما أن لقاء الفنانين مع بشار الأسد قد جاء بسيف الحياء، أو الخوف، فلربما كان الأمر بالعكس؛ إذ يختار القصرُ المرضيَّ عنهم لمقابلات من هذا النوع

المقابلة كانت حقاً مفيدة على نحو ما، ففيها يتضح ما لدى الفنان (والكاتب أيضاً، وهذه ميزة يفترض أن تجعل أطاريحه أكثر دقة مما ورد في المقابلة) المقلّ في الظهور على جمهوره إعلامياً، فعلى غرار نظرية الاكتفاء الجاهلة تلك، لم يكن الكلام في الفن على ذلك القدر الذي ينتظره المرء من روائيّ وخريج «فنون جميلة»، وصاحب مكانة في فن التمثيل ليست قليلة، فالإطار العام ومناخ المقابلة يوحي بنظرة انتقادية غير راضية ولا متفقة أو قابلة للتكيّف، بل أكثر من ذلك، تشعر، حتى قبل أن ترى المقابلة كلها، من إعلانات ترويجية، أن الفنان غاضب، وجريء، لكن الجرأة جاءت فقط على من سماهم «الغيفاريين»، من معارضي النظام السوري، وعلى الأغلبية الساحقة من الفنانات السوريات اللواتي «يتسترن بالفن على أمور أخرى» (لماذا تعيب إذن على زملاء تنصلهم من الوسط الفني!)، أما في باقي الأمور، فما من مشاكل تذكر، على ما يبدو.

وحول سؤال عن اللقاء مع بشار الأسد لم نفهم تماماً، بعد لفّ ودوران مدوّخين، ما الغرض منه، ولا ما علاقة المتغيرات الدولية بمقابلة الفنانين.

أما أن المقابلة جاءت بسيف الحياء، أو الخوف، فلربما كان الأمر بالعكس؛ يختار القصرُ المرضيَّ عنهم لمقابلات من هذا النوع، أما الإجبار فسيكون من نصيب المعترضين الذين غالباً ما يقادون مخفورين، واقعاً أو مجازاً، إلى الشاشة الرسمية، مكرهين على قول ما، كما حدث على الدوام في البرنامج الشهير «الشرطة في خدمة الشعب».

وسوم: العدد 1083