ثغرة “كورسك”.. احتمالات النجاح والفشل في الحرب الروسية الأوكرانية!
أرسى علم الواقعية السياسية التي أسس لها “ميكافيلي” في كتابه الأشهر “الأمير” قاعدة عسكرية هامة مفادها أن الكسب السريع لكثير من الأرض في الحروب يعني أيضا الفقد السريع لهذه الأرض بذات السرعة، وذلك لأن المقاتلين هنا لا يتشبثون بالأرض، بل يسيطرون عليها فقط.
ومن خلال تطبيق هذه القاعدة الخالدة التي ثبت صحتها في معظم حروب العالم، نستطيع أن نتوقع أن ما حدث في الأيام القلية الماضية من الاجتياح الأوكراني السريع بعمق 22 ميلًا في مقاطعة كورسك الروسية في السادس من أغسطس/آب الجاري والاستيلاء على نحو ألف كيلومتر مربع موزعة على عشرات القرى الصغيرة، ما هو إلا مجرد زوبعة في فنجان.
وتوافرت أسباب الردع طبقا للنظرية الميكافيلية حيث إن الجيش الأوكراني هرول في مناطق متفرقة في المقاطعة وتمدد فيها بشكل هشّ، من دون القدرة على تأمين مناطق وجوده، فضلا عن عجزه عن تأمين موطئ قدم خطوته القادمة أو السابقة، وفقدانه أيضا القدرة على الثبات تحت وقع الضربات الجوية الروسية.
كما تتزايد التكهنات بقيام الروس بإعداد خطة سريعة لردم تلك الثغرة التي تشبه إلى حدّ بعيد “ثغرة الدفرسوار” في حرب 1973 المصرية، تقضي بتطويق القوات المهاجمة من الخلف ومحاصرتها وقطع طرق الإمداد عنها، تمهيدا لتوجيه ضربات موجعة لها والقضاء عليها.
وجاء قرار الروس بإجلاء مئات الآلاف من سكان تلك المقاطعة ليؤكد سعيهم لصدّ الاختراق الأوكراني، والتضحية بامتيازات يمكن استغلالها مثل أن سكان هذه المقاطعة هم في غالبيتهم المطلقة من العرقيات الروسية السائدة الذين يكنون خصومة تاريخية للأوكران، ولا يتوانون عن مشاركة جيش بلادهم معركته، فضلا عن أن الأرض عادة تحارب مع أصحابها.
هذا إضافة إلى إعلان معهد دراسات الحرب الأمريكي قيام الجيش الروسي بحفر خنادق في منطقة “لوغوف” غرب “كورسك”؛ مما يعني استعداده لعملية حصار طويلة.
وكانت هناك مؤشرات تؤكد توقع روسيا تصعيدا عسكريا غربيا وشيكا ضدها قبل هذا الاجتياح، فعملت على تدريب قواتها البحرية على ضرب أهداف في عمق أوروبا باستخدام صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية، وذلك ردًّا على حزم المساعدات الغربية التي قدمت إلى أوكرانيا وتشمل طائرات أف 16، ومركبات قتال أميركية من طراز سترايكر، وأخرى ألمانية من طراز موردر.
لماذا كورسك؟
والهدف الأول من عملية اجتياح كورسك هو تشتيت الجهد العسكري الروسي وإجباره على سحب وحداته المدربة من قواته العاملة في الأقاليم التي استولى عليها في أوكرانيا؛ مما يسهل على الجيش الأوكراني استردادها، أو إجراء عملية مقايضة أرض بأرض.
ويعود اختيار الأوكران وحلفاؤهم الغربيون هذه المقاطعة لتنفيذ هذا الاختراق لكونها محورا رئيسيا لخطوط النقل البرية سواء داخل روسيا أو مع أوكرانيا نفسها، ولذلك عجلوا بقصف العديد من الجسور الحيوية فيها على نهر سيم في محاولة لعزلها، ولتحجيم أهميتها الاستراتيجية لروسيا في حال الجلاء عنها لأي سبب كان.
ومن الأسباب أيضا كونها من أكبر معاقل قلاع الصناعة الروسية وتوجد فيها محطات رئيسية لتصدير الغاز إلى أوروبا ولو كانت متوقفة حاليا، وبالتالي فإن السيطرة عليها ستضرب الاقتصاد الروسي المنهك ضربة قوية.
هذا فضلًا عن رمزيتها الكبيرة للروس باعتبار أنها شهدت أكبر معركة دبابات في التاريخ الحديث سنة 1943، حينما انتصر الروس فيها على الجيش النازي، وبالتالي فإن الاستيلاء عليها بما لها من رمزية يعد إهانة بالغة للروس.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل عمد الأوكرانيون إلى إرسال رسائل من شأنها إشعار الروس بالإهانة، منها قيامهم بتصوير عدد من الأسرى الروس لديهم وهم في أوضاع بائسة يرتدي بعضهم أطواق المراحيض، كما نشر لواء عسكري مقطعا مصورا لجنوده في مكتب مجموعة الطاقة الحكومية الروسية غازبروم، وهو فيديو أراد أن يقول من خلاله إننا نحتل أراضيكم ونستولي على منشأتكم الحيوية كما فعلتم أنتم في أوكرانيا.
وقد ساعد في هذا الاجتياح السريع كون معظم قوات الجيش الروسية العاملة في هذا الإقليم غير مدربة بشكل جيد لأنها من أفواج الاحتياط، ترافقها أقليات من كتائب الحدود ووحدات الحرس الجمهوري، وفوج واحد من قوات أحمد الشيشانية التي طلب بوتين منها الدعم الأشهر الماضية.
هل ستنجح الثغرة؟
من الصعب أن تنجح الثغرة في أداء وظيفتها التي أُنشئت من أجلها لأسباب عدة، أهمها أن هذه القوات لن تستطيع الصمود طويلا داخل الأراضي الروسية من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن الروس بدوا مترددين في سحب أي وحدات لهم من أوكرانيا حسبما كان يأمل الأوكرانيون، ويخططون للاستعانة بقوات مدربة من دول حليفة مثل الجارة بيلاروسيا والشيشان للمساعدة على صد هذا الهجوم ودحره.
وبالفعل قامت بيلاروسيا بحشد قواتها على الحدود الروسية في انتظار أوامر بالتدخل، وسط تكهنات بإرسال كوريا الشمالية دعما عسكريا لروسيا خاصة بعد تصريحات زعيمها التي أدانت الثغرة ووصفتها بأنها عمل إرهابي لا يغتفر، والتي تضمنت عبارات مثل قوله “سنقف دائمًا جنبًا إلى جنب” مع روسيا و”ندعم بقوة الحرب المقدسة التي يخوضها الجيش والشعب الروسي”، ولا شك أن القوات الشيشانية ووحدات فاغنر لن تقف مكتوفة الأيدي.
وقد أدرك قائد أوكراني الفخ الذي أوقعوا أنفسهم فيه فقال لمجلة الإيكونوميست، إن هذا الهجوم كان “مقامرة، فقد أرسلنا وحداتنا الأكثر جاهزية للقتال إلى أضعف نقطة على حدودهم”. وأضاف أن “هذه المقامرة لم تؤت ثمارها بالسرعة التي كانت تأملها كييف”.
والأهم أن روسيا بوصفها دولة نووية لن تقبل بأي حال إخضاعها للتفاوض مع كييف تحت وطأة هذا الضغط حتى لو تفجرت حرب مع حلف شمال الأطلسي حسب تلميحات رئيس الوزراء الروسي الأسبق سيرجي ستيباشين.
وسوم: العدد 1092