المتاجرون بمأساة الشعب الفلسطيني
لا زالت القضية الفلسطينية وهي مأساة شعب منذ سنة 1948 لم توضع في إطارها الحقيقي الذي تحاول طمس معالمه الدول الأوروبية بزعامة الولايات المتحدة لتجعل منها قضية اختلاق قضية شعب صهيوني هجّر من دول أوروبية وغيرها من دول العالم تحت ذريعة إنصافه من ظلم النازية ليحل محل الشعب صاحب السيادة تاريخيا على أرض فلسطين والذي هجّر بعضه منها قسرا وقهرا ، وظل البعض الآخر تحت نير الاحتلال الصهيوني الذي سامه الخسف لعقود ولا زال ينكل به بكل وحشية وهمجية بتشجيع من الدول الغربية الداعمة له سياسيا وعسكريا بل المشاركة له فعليا ، وبسكوتها على جرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها ضاربا عرض الحائط قرارات مجلس الأمن المشلولة بفعل فيتو دول الغرب ، وأحكام محاكم جرائم الحرب الدولية .
وعوض وضع القضية الفلسطينية وضعها الصحيح الذي يقتضي تصفية الاحتلال الصهيوني وجلائه عن أرض فلسطين تصحيحا للظلم الذي ارتكبته الدول الغربية في حق الشعب الفلسطيني من خلال تصدير اليهود إلى أرض فلسطين ، فإن تلك الدول لا زالت تحاول طمس حقيقة هذه القضية ، وتتمادى في التكيل بالشعب الفلسطيني من خلال إطلاق أيدي الصهاينة الطولى كي تبيده ، وتصفي قضيته العادلة .
ولقد كانت مأساة الشعب الفلسطيني ولا زالت إلى يومنا هذا موضوع متاجرة من طرف عدة جهات هي كالآتي :
1 ـ الولايات المتحدة الأمريكية التي يعود فيها صنع القرار إلى اللوبي الصهيوني المتغلغل في أهم مؤسساتها السياسية والاقتصادية والإعلامية . ولقد كانت مأساة الشعب الفلسطيني دائما ولا زالت موضوع متاجرة بين حزبين يحكمان هذا البلد بالتناوب مع أنهم عبارة عن وجهين قبيحين لورقة واحدة بحيث لا يصلان إلى مركز صنع القرار بالبيت الأبيض إلا بقرار من اللوبي الصهيوني الذي يجعلهما ينافسان في كسب ولائه الذي لا يمكن أن يكسب إلا بالدعم اللامحدود للكيان الصهيوني المستنبت في أرض فلسطين . ولقد لاحظ مراقبون مطلعون على أن الفترات التي تشتد فيها مأساة الشعب الفلسطيني هي فترات الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية ، والتي فيها تمرر قرارات الدعم السخي للكيان الصهيوني . ولقد نقلت وسائل الإعلام مسرحية المناظرة بين الرئيس الديمقراطي الحالي ونظيره الجمهوري السابق ، وكان التنافس بينهما على كسب رضى اللوبي الصهيوني والحصول على ورقة الفوز بالرئاسة . ولما أحس الحزب الديمقراطي الذي لم يدخر جهدا في دعم الكيان الصهيوني ومشاركته الفعلية في ارتكابه جرائم إبادة جماعية أن رئيسه العجوز لم تعد لديه أهلية لفترة رئاسية أخرى رشح نائبته بديلة عنه ، وهي تواصل حملتها الانتخابية بنفس أسلوب التفاني في إرضاء اللوبي الصهيوني فيما يطلبه من دعم للكيان الصهيوني مقابل عروض سخية من غريمها الجمهوري الذي سبق له في فترة رئاسته السابقة أن أعلن القدس عاصمة أبدية للصهاينة وكان إعلانه كمن يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق .
وفي الوقت الذي تستمر فيه مأساة الشعب الفلسطيني والعدو الصهيوني يقصفه بكل وحشية وهمجية وشراسة لما يقرب من سنة ، تمعن الإدارة الأمريكية في المتاجرة بمأساته ، وهي تساير مجرم الحرب نتنياهو في تمديد مدة عدوانه ، ومماطلته في عقد صفقة لإنهاء الحرب ومبادلة أسرى فلسطينيين برهائن صهاينة محتجزين لدى المقاومة الفلسطينية . وتعمل الإدارة الأمريكية على تلبية رغبة نتنياهو ببقاء قولته في قطاع غزة ، وهي تناور ، ويدعي أن الطرف الذي يعرقل التوصل إلى اتفاق هو المقاومة الفلسطينية بالرغم من انقسام الصف الصهيوني الذي فيه أطراف تحمل نتنياهو مسؤولية عرقلة الاتفاق بشكل صريح يكذب ادعاء الإدارة الأمريكية التي لا تكشف عن خبيث نواياها في وقت تسوق التظاهر بحرصها على التعجيل بإبرام صفقة تنهي الحرب في قطاع غزة .
2 ـ لا تختلف متاجرة إدارات دول أوروبية غربية بمأساة الشعب الفلسطيني عن متاجرة الإدارة الأمريكية بها ، ونذكر منها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا التي ربطت حملتها الانتخابية بالقضية الفلسطينية ، وركبتها مطية من أجل إرضاء اللوبي الصهيوني الذي لا تقل ممارسة ضغطه عليها عن ممارسة ضغطه على الإدارة الأمريكية ، وبقدر إظهار حجم التصهين للوبي الصهيوني يعلو مؤشر فوز الأحزاب الأوروبية في الانتخابات . ولا تخلو الحملات الانتخابية لدى تلك الأحزاب من إظهار التصهين ، وهو متاجرة فاضحة وخسيسة بمأساة الشعب الفلسطيني .
3 ـ متاجرة أنظمة الدول العربية الموقعة على معاهدات سلام مع الكيان الصهيوني والتي تقلقها المقاومة الفلسطينية ،بل تقض مضجعها ، وهي لا تستعجلن إنهاء الحرب في غزة حرصا على أرواح الفلسطينيين بقدر ما تستعجل قضاء الكيان الصهيوني على تلك المقاومة من أجل مصالحها ، وذلك على حساب قضية الشعب الفلسطيني ، وهذا دأبها منذ عقود. ولقد كانت دائما توظف معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني من أجل الاستبداد بشعوبها التي تعاني كثيرا من سوء تدبيرها، ومن سوء سياستها ، وتعسفها، وما ترتب عن ذلك من أزمات اقتصادية خانقة . ولا تختلف السلطة الفلسطينية عن تلك الأنظمة في مواقفها وتعاملها مع المقاومة الفلسطينية .
4 ـ متاجرة الأنظمة العربية اللاهثة وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني ، وهي لا تختلف عن متاجرة الأنظمة الموقعة معه على معاهدات سلام . ولقد كانت صفقة القرن ماضية على قدم وساق انطلاقا من بيتها الإبراهيمي من أجل توسيع رقعة البلاد العربية المطبعة على حساب القضية الفلسطينية لولا أن المقاومة الفلسطينية أحبطت الصفقة من خلال طوفان الأقصى الذي أعاد القضية إلى إطارها التاريخي الحقيقي الذي يجب أن يعود الانطلاق منه لإنصاف الشعب الفلسطيني المظلوم ظلما كبيرا . وهذه الأنظمة بدورها لا تتمنى وقف الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني بقدر ما تريد قضاء الكيان الصهيوني على المقاومة التي تعتبرها خطرا عليها لما تدل عليه من انتفاض ضد الاستبداد والطغيان والظلم قد تصل عدواه إلى شعوبها التي أشعلت ثورات ربيعها العربي وقد سارعت الإدارة الأمريكية ومعها الإدارات الأوروبية إلى وئدها في مهدها من أجل تكريس الاستبداد في الوطن العربي كما كان لعقود طويلة .
5 ـ متاجرة أنظمة عربية لما يسمى بدول الممانعة التي تنتقد الأنظمة الموقعة على معاهدات سلام مع الكيان الصهيوني ، وتلك المطبعة معه نقدا قد يبلغ أحيانا حد التخوين، وهو كل ما في جعبتها وما تزعم أنها تدعم به الشعب الفلسطيني المحتاج إلى من يشاركه الخندق بالعدة والعتاد والطعام والشراب والدواء ، وليس مجرد التنديد بما يعانيه . وهذه المتاجرة بمأساة الشعب الفلسطيني من طرف هذه الأنظمة لا تقل خسة عن باقي المتاجرات ، لأنها تحرص على تلميع صورتها في عيون شعوبها من خلال ما تذره فيها يغطي عما تعانيه من استبداد ومن أزمات اقتصادية خانقة لها أسوأ التداعيات على كل مجالات الحياة .
6 ـ متاجرة النظام الإيراني وحلفائه الشيعة في لبنان واليمن بمأساة الشعب الفلسطيني لا تقل عن متاجرة غيره من أمريكان وأوروبيين وعرب ، وهو نظام يحلم ببسط سيطرته على أقطار عربية فيها أقليات شيعية كي يكون ما يسمى هلالا شيعية يناصب العداء التاريخي للبلاد السنية وقد وجد دعما من طرف الإدارة الأمريكية وحليفاتها الأوروبيات التي سلمت له العراق وما يليه بعد القضاء على النظام العراقي البعثي الذي كان يهدد الكيان الصهيوني . والنظام الإيراني لا تعنيه مأساة الشعب الفلسطيني ولا قضيته خلافا لما يسوقه إعلاميا بقدر ما تعنيه مصالحه في المنطقة ، وهو أيضا لا يتمنى نهاية الحرب في غزة من أجل إنهاء مأساة أهلها بل هو يتاجر بها لجعلها ورقة رابحة في ملف برنامجه النووي الحريص عليه ، والذي له فيه مآرب ليس ما يدعيه من تهديد لأمن إسرائيل بل لتهديد دول المنطقة العربية . ومما كشف متاجرته بمأساة الشعب الفلسطيني أسلوب مناوشته للكيان الصهيوني منذ طوفان الأقصى ، وهو عبارة عن مسرحية مكشوفة سواء بالنسبة المناوشة التي تنطلق في جنوب لبنان الذي صار منطقة إيرانية تحت ذريعة وجود شريحة شيعية فيه أو المناوشة المباشرة من الأراضي الإيرانية . ولأول مرة نسمع بمثل هذه المناوشات أو هذا الأسلوب من الصدام الذي يتم الاتفاق على موعده ، وعلى المواقع المستهدفة بين إيران وإسرائيل ،والذي يأتي كرد على اغتيالات ينفذها الكيان الصهيوني في العمق الإيراني أو في العراق وسوريا أو في الجنوب اللبناني ، وكلها مناطق نفوذ إيراني مستباحة بالنسبة إليه .
ولقد عاين العالم ما سمي ضربة إيرانية ردا على استهداف الكيان الصهيوني قنصلية النظام الإيراني أعلن فيها عن موعد انطلاق الصواريخ والمسيرات التي تسلت بتدميرها الطائرات والأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية ...وربما غيرها مما لم يكشف النقاب عنه . وبالأمس فقط تحدث الزعيم الموالي لإيران في لبنان عما سماه ضربة سبقت بضربة صهيونية استباقية ، وادعى فيها أنها أصاب الأهداف التي استهدفها بينما كذب إصابة الضربة الاستباقية الصهيونية أهدافها ، وهكذا تبادل الطرفان التكذيب ، وبقيت الحقيقة مغيبة وخارج التغطية الإعلامية تمويها على مناوشات متفق عليها مسبقا بين الطرفين ، والتي توصف بقواعد الاشتباك المحصور في مسافة حدودية تمتد ما بين خمسة وعشرة كيلومترات على الحدود بين لبنان وفلسطين ، ولا تزيد عن ذلك . وتتاجر إيران بمأساة الشعب الفلسطيني انطلاقا من قاعدتها المتقدمة في جنوب لبنان عبر وكيلها الشيعي الذي يفاخر بدعم القضية الفلسطينية، والحقيقة أنه يخدم مصالح إيران إذ لو صدق في ادعائه لكان قد دخل حربا شاملة مع الكيان الصهيوني منذ السابع من أكتوبر ،عوض مناوشات قواعد الاشتباك الشبيهة بالألعاب النارية ، ولكان النظام الإيراني أيضا قد دخل بدوره مباشرة في تلك الحرب من أجل انقاذ الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة الجماعية منذ ثمانية أشهر. ولم يخجل وكيل حرب إيران في لبنان من إعلانه أن ما قام به بالأمس قد انتهى وأنه حان وقت استراحة للجميع إلى موعد جديد لممارسة فصل آخر من قواعد الاشتباك المدروسة ،والمتفق عليها سلفا مع الصهاينة الذين لا تتوقف جرائم إبادتهم للشعب الفلسطيني لحظة واحدة منذ ثمانية أشهر.
وشبيه بمتاجرة وكيل إيران في لبنان بمأساة الشعب الفلسطيني بمتاجرة وكيلها في اليمن من أجل مصالحه أيضا ، و التي منها السيطرة على كامل التراب اليمني ، فضلا عن السعي لتحقيق اكتمال القرن الجنوبي للهلال الشيعي الذي اكتمل قرنه الشمالي في العراق وسوريا ولبنان . والوكيل اليمني ينهج نفس أسلوب الوكيل اللبناني في مناوشته للكيان الصهيوني من خلال قواعد اشتباك متفق عليها سلفا مع فرق بين مجالها الجغرافي في الساحة اللبنانية وفي الساحة اليمنية .
7 ـ متاجرة النظام التركي أيضا بمأساة الشعب الفلسطيني وهو من ضمن المطبعين مع الكيان الصهيوني حرصا على مصالحه باعتباره عضوا في حلف الناتو ، وباعتبار رغبته في الانضمام إلى منظومة الدول الأوروبية ، فضلا عن حرصه على التبادل التجاري مع الصهاينة ، لهذا يكتفي بتسويق عبارات التنديد بالمجازر التي ترتكب في حق الشعب الفلسطيني دون تقديم أي شيء له حتى مجرد إبطال التطبيع كورقة ضغط بيده من شأنها أن تؤثر على اقتصاد الكيان المحتل.
8 ـ متاجرة أنظمة الدول الإسلامية بمأساة الشعب الفلسطيني وعلى رأسها تلك التي تنعت بالنمور الأسيوية ماليزيا وأندونيسا فضلا عن باكستان النووية ، وبنغلاديش ...ودول أخرى مطبعة مع الكيان الصهيوني كأذربجان، وهي في نفس الوقت تتباكى على الشعب الفلسطيني، وعلى ما يلحق المسجد الأقصى من تدنيس ومن تهديد بالهدم إلا أن مصالحها الاقتصادية توضع فوق واجب الأخوة الإسلامية ، وهي لم تزد عن دعمها للشعب الفلسطيني على حضور اجتماع مع الدول العربية عند بداية هجوم الصهاينة على قطاع غزة ، واقتصر دعمها على التنديد ، ومطالبة مجلس الأمن بإصدار قرار أممي يقضي بوقف الحرب ، ثم لم تعد للاجتماع منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا ، ولا هي اتخذت قرارات من شأنها أن تجبر الكيان الصهيوني وحلفاءه على وقف جرائم الإبادة الجماعية الرهيبة .
9 ـ متاجرة روسيا والصين بمأساة الشعب الفلسطيني باعتبارهما قوتين نوويتين بإمكانهما التدخل من أجل إنقاذ هذا الشعب المسكين بشكل أو بآخر عوض ترك الفراغ والساحة خالية لحلف الناتو الذي يخوض عمليا الحرب ضد الشعب الفلسطيني . ولا يعدو موقف القوتين النوويتين مما يجري في فلسطين عن الشجب والتنديد .
10 ـ متاجرة باقي دول العالم بمأساة الشعب الفلسطيني إما باصطفاف بعضها إلى جانب الكيان الصهيوني كما هو الشأن بالنسبة لبعض دول أمريكا اللاتينية ، وإما بالسكوت على جرائم هذا الكيان ، والتفرج على المذابح والمجازر التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ، وكل هذه الدول لها مصالح غلبتها على المبادىء ، وهو ما يعد متاجرة ساقطة بالقضية الفلسطينية .
11ـ متاجرة كثير من شعوب العالم بمأساة الشعب الفلسطيني إما بتجاهل ما يتعرض له من إبادة جماعية وهي التي تنقلها وسائل الإعلام العالمية كل يوم صباح مساء أو بالوقوف إلى جانب الكيان الصهيوني أو في صفه كما هو الشأن بالنسبة لأتباع الأحزاب اليمينية المتطرفة في الدول الأوروبية على سبيل المثال وإلا فهناك شرائح من شعوب عربية وإسلامية تؤيد الكيان الصهيوني، والجميع يحرص على مصالحه مع هذا الكيان العنصري والنازي، مع التهافت على سلعه وسلع الدول الداعمة له والذي يعبر مشاركة مادية في مأساة الشعب الفلسطيني وشماتة به .
ولا بد في الأخير من الإشادة بمواقف الشعوب العربية والإسلامية التي دأبت على الخروج في مظاهرات مليونية رغم التضييق عليها بشكل أو بآخر من طرف أنظمتها فضلا عن المواقف المشرفة لشرفاء شعوب مختلف بلدان العالم بما فيها البلدان المتورطة مع الكيان الصهيوني في جرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني . ولقد سجل التاريخ كل المواقف ، والتي ستطلع عليها الأجيال القادمة ، ويحوز اللعنة الأبدية من تاجروا بمأساة الشعب الفلسطيني بينما يذكر بفخر واعتزاز من ساندوه في محنته ، وسيبقى الحساب عند الله عز وجل يوم يعرض الخلق عليه ،ويوم يعض كل ظالم على يديه .
وسوم: العدد 1092