عام على الطوفان… غزة الكاشفة

مع حلول الذكرى السنوية الأولى لطوفان الأقصى نشاهد قطاع غزة، وكيف تحول تحت آلة التدمير الصهيونية وحرب الإبادة غير المسبوقة منطقة غير قابلة للحياة، أو حتى التعرف عليها. تحولت المدن والشوارع والمدارس والجامعات والمستشفيات والمؤسسات إلى أنقاض أمام عيون العالم وأبصاره. فهذه أول حرب إبادة في التاريخ تلتقطها عدسات الكاميرا والفيديو بكل تفاصيلها ومآسيها. لقد تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين 42000 وعدد المصابين نحو 95000 شخص يواجه عدد كبير منهم إصابات دائمة، وعدد المدفونين تحت الأنقاض نحو 15000. وفي الوقت الذي لم يبق من المحتجزين إلا 97 من أصل 251 يزيد عدد الأسرى الفلسطينيين والمعتقلين والمحتجزين عن 11000. المواجهات تمددت من غزة إلى الضفة الغربية إلى جنوب لبنان ثم كل لبنان واليمن والعراق وإيران. وسنحاول أن نسلط الضوء على ما كشفته حرب الإبادة في غزة على المستويات جميعها:

تحدث نتنياهو في خطابيه أمام الكونغرس وفي الجمعية العامة عن الحرب بين الحضارة والبربرية، ولا نعرف مثالا في التاريخ المعاصر أوضح من البربرية التي شاهدناها في غزة والآن في لبنان

المستوى الصهيوني: لقد كشف طوفان الأقصى أن المشروع الصهيوني هش وقابل للانكسار والتفكيك. انهارت منظومة الأمن والجيش والمخابرات أمام مفاجأة الطوفان. هرعت الولايات المتحدة وخلفها القوى الاستعمارية كلها، بريطانيا وفرنسا وألمانيا لإنقاذ الكيان. ولو تأخرت المساعدات العسكرية والاستخباراتية والذخائر أسبوعا أو أسبوعين، لانهار الكيان معنويا قبل أن ينهار عسكريا. إنه شجرة هجينة مزروعة في تربة تلفظه وترفض أن تستقبل جذوره وتمدها بالنسغ لتعيش طبيعية.

كما كشفت هذه الحرب حقيقة نوايا الكيان الصهيوني وخططه دون رتوش أو أصباغ: يريد الإبادة للشعب الفلسطيني وإنهاء قضيته، إن تمكن، مرة وإلى الأبد. يريد أن يدمر غزة تماما ويحولها قاعا صفصفا غير قابلة للحياة. وهو ما يقوم به فعلا وأمام العالم من قتل وتدمير وتهجير متواصل واستخدام سلاح التجويع والتعطيش ونشر الأمراض ومنع الدواء وتعطيل المستشفيات والعيادات وتدمير الجامعات والمدارس والطرق والبنايات السكنية. إن تعطيل دراسة 680 ألف طالب جزء من هذا المخطط الشيطاني الذي يلقى الرضى والقبول من الغالبية الساحقة من المنتمين لهذا «الكيان الدموي». وقد عبّر غالانت وزير القتل، عن هذا التوجه عندما أعلن أنه ذاهب إلى غزة لمحاربة «الحيوانات البشرية»، وقال: «لا كهرباء ولا طعام ولا وقود». ولن تكون الضفة إلا النسخة الأخرى عن غزة، إذا ما انكسر ظهر المقاومة في غزة. وما حدث في جنين وطولكرم وطوباس ونابلس هو مقدمة لنقل معركة غزة إلى الضفة. لا يتوهمن أحد أن هذا الكيان سيترك أثرا للحركة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية إذا ما هزمت المقاومة في غزة.

الوضع الفلسطيني: لقد كشف الطوفان ضعف قيادة رام الله التي ما زالت تعيش في أوهام التسوية، وتطلب الحماية من المجتمع الدولي. والغريب أنها تكرر طلب الحماية مرة وراء مرة، وتعلن أنها لا تريد أن تقاوم أو تحارب أو تواجه، ثم تطالب المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للانسحاب حتى خطوط الرابع من يونيو 1967 لإقامة دولة مستقلة مترابطة وعاصمتها القدس الشرقية. أعجب لهذا الخطاب الخيالي وهم يرون الاستيطان يقطع البلاد من كل جهة ويمزق الأرض الفلسطينية من شمالها إلى جنوبها. أستغرب كيف ترى قيادة السلطة المستوطنين ينشرون الرعب في الجسد الفلسطيني، ويهاجمون القرى والمدن وحقول الزيتون ويعربدون ليل نهار، وما زالت هذه القيادة تطالب المجتمع الدولي بتأمين الحماية، علما أن اتفاقيات أوسلو الكارثية تخولها حماية شعبها في المنطقة ألف وباء على الأقل، خاصة أمام عنف المستوطنين. فلماذا يتراجع هؤلاء عن همجيتهم إذا لم يلقوا سدا منيعا أمامهم. أليس مهمة القوى الأمنية حماية الشعب الفلسطيني كما قالوا لنا؟

والأدهى من هذا وذاك أن يعلن الرئيس قراره في البرلمان التركي بأنه متوجه هو «ووزراؤه» إلى قطاع غزة فيستقبله البرلمان التركي بالتصفيق وقوفا لمدة طويلة، ثم يأتي إلى الجمعية العامة ويطلب من مجلس الأمن أن يؤمن زيارته لغزة، ويطلب من أعضاء المجلس مرافقته في الزيارة. هل هناك ضعف أكثر من هذا؟ وأنا أود أن أسأل، لماذا لا يزور الرئيس جنين وطولكرم ونابلس والخليل. دع عنك غزة فدونها خرط القتاد. اذهب واجلس مع سكان مخيم جنين وسنعلن وقوفنا معك وندبج فيك المدائح.

الوضع العربي: كشفت غزة هشاشة الوضع العربي الرسمي وبؤس الزعامات، وتردي الكرامة الوطنية، وانقطاع شرايين الحياء منها. وأول مجموعة البائسين هم الدول المطبعة مع العدو الصهيوني. هل يعقل ألا تغلق سفارة ولا يسحب سفير ولا تنقطع الاتصالات ولا تتوقف التجارة ولا تبادل الزيارات ولا تنقطع الرحلات ولا تؤجل الاتفاقيات. هل يعقل أن خمس دول عربية ارتفعت نسبة تجارتها خلال سنة المذبحة إلى 167%، وأن كثيرا من الخضار والفواكة والمستلزمات اليومية تصل الكيان عن طريق بعض الدول العربية. هل كان أحد يتخيل أن تسيطر إسرائيل على معبر رفح المصري- الفلسطيني وعلى محور فيلادلفيا على الحدود المصرية، في انتهاك صارخ لاتفاقية كامب ديفيد دون أن يرفع النظام المصري صوته؟ كيف وصلنا كأمة إلى هذا المستوى. تجتمع 57 دولة عربية وإسلامية في الرياض بتاريخ 11 نوفمبر 2023 وتعتمد قرارات لإدخال الماء والغذاء والدواء ولا تستطيع مجتمعة أن تدخل قارورة ماء إلى غزة؟ أما الجامعة العربية، فتطلب إلى مندوبيها في الأمم المتحدة بالعمل على طرد الكيان من الجمعية العامة ثم ينتهي القرار إلى سلة المهملات.

الوضع الدولي: لقد فضح كشاف غزة النفاق الغربي بمجمله، وتبين بما لا يحتاج إلى إثبات سقوط منظومة القيم الغربية التي صدعت رؤوسنا بمسائل حقوق الإنسان وسيادة القانون والقانون الدولي والعمل على تحقيق السلم والأمن عالميا. كل تلك المنظومة سقطت تحت نعال ضحايا غزة من نساء وأطفال وشيوخ. شاهدوا المجازر ترتكب ضد المدنيين والمعالم المدنية والصحافيين وعمال الإغاثة الإنسانية والطواقم الطبية، ولكنهم اصطفوا وراء الكيان تحت حجة الحق في الدفاع عن النفس وهم يعرفون أن هذا المبدأ لا ينطبق على شعب يقع تحت الاحتلال. ظلوا يبررون لإسرائيل جرائمها، وعندما يكون هناك فائض من الدم يعربون عن قلقهم ويطالبون بمراعاة المدنيين فيرد عليهم نتنياهو بارتكاب مزيد من المجازر. لقد تحدث نتنياهو في خطابيه أمام الكونغرس وفي الجمعية العامة عن الحرب بين الحضارة والبربرية، ولا نعرف مثالا في التاريخ المعاصر أوضح من البربرية التي شاهدناها في غزة والآن في لبنان. كشفت غزة كذلك مواقف المسؤولين الدوليين ونفاقهم واختباءهم خلف شعارات تافهة، وتكرار حكاية الإرهاب الفلسطيني، وكأن تاريخ الصراع بدأ يوم 7 أكتوبر. ومع هذا شيطن الكيان الأمم المتحدة وأمينها العام والأونروا ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، واتهمها جميعا بمعاداة السامية. ابتزاز مطلق ليضعهم في موقع الدفاع والتبرير ونفي التهم. أي سقوط أكثر من هذا؟

محور المقاومة: من يعتبر أن مشاركة محور المقاومة في معركة طوفان الأقصى مسرحية فليتفضل ويشارك في هذه المسرحية. وليطلق صواريخ «فتيشي» كما يدعون على الكيان. بدل ذلك ليسمحوا للمظاهرات للتضامن مع ضحايا حرب الإبادة وعدم اعتقال من يرفع علم فلسطين. إن مشاركة قوى محور المقاومة أنبل ظاهرة تكاتف وإسناد وتضحية من أجل فلسطين. هؤلاء المطبعون وذبابهم الإلكتروني الذين لا هم لهم إلا تسفيه المقاومة ومسانديها في الجبهات لا يمثلون إلا السقوط الأخلاقي وتزيين الخيانة. إن الذين فرحوا لاستشهاد حسن نصر الله على يد الكيان الصهيوني، بدوا وكأنهم في صف الكيان وجزء من الجريمة فلا كانوا ولا كان تضامنهم مع فلسطين، إذا هللوا وكبروا ورفعوا أعلام الكيان على مواقعهم. لقد كشفت غزة وطوفانها المواقف كافة فلا يتاجرن أحد بقضية فلسطين بعد اليوم. الكلمة للمناضلين والشهداء – أكاليل الغار عليهم جميعا وما يمثلونه من كرامة.

وسوم: العدد 1097