نهاية ديكتاتورية الأسد

نسمة الهواء الأولى التي استقبلت وجوه السوريين الخارجين من منازلهم صباح الثامن من ديسمبر سيبقى ملمسها مختلفا عن أي شيء عهده معظمهم في حياةٍ كاملة، فنحو 90% منهم لم يعرفوا الحياة خارج حكم أسرة الأسد، ولدوا وعاشوا وتقلبوا في فصول المعاناة، وهم يدورون في الحلقة المفرغة نفسها، ويسمعون الكلام المعلب ذاته، وبصورة مفاجئة، وأثناء محاولات لتعويم النظام وإعادة تأهيله للخروج من السنوات السوداء التي شهدت فصولا غير مسبوقة من العنف والدموية، أتى السقوط المفاجئ.

تعالت الأصوات في دمشق، وعشرات المدن السورية، سقط.. سقط.. سقط.. وبعد ساعات بدأت تفاصيل السقوط، الذي أتى عنوانه الأساسي في هروب الرئيس بشار الأسد تظهر تباعا، فالجيش السوري يتخلى عن القتال، وجنوده يتخلون عن ملابسهم العسكرية، ويذوبون وسط الناس، والجنرالات لا يتلقون أية أوامر، لتنكشف الأسلحة السورية من طائرات ومعدات دفاع جوي أمام قصف إسرائيلي للحيلولة دون استيلاء الثوار على هذه الأسلحة المتقدمة نسبيا، في تصرف يكشف مدى استهانة الأسد بسوريا وشعبها، خاصة أن البعض استدعى قرار الرئيس العراقي صدام حسين استيداع عشرات الطائرات لدى ايران الدولة العدوة ليتجنب خسارتها في قصف التحالف، أثناء حرب الخليج الثانية، فكل طائرة تساوي قيمتها مئات الأسرة في المستشفيات وعشرات الغرف الصفية في المدارس.

سقوط الأسد هو جزء من سقوط أوسع لمشروع أبقاه على الأرض لسنوات، وتحديدا منذ تفجير مبنى الأمن القومي السوري في 2012، حيث بدت دمشق وقتها متاحة أمام القوى المسلحة على جميع أطيافها

خلال ساعات من سقوط الأسد تمكنت إسرائيل من الدخول إلى العمق السوري في أكثر من نقطة خلال الحدود، وبقيت الأسئلة المعلقة بالقوات الكردية، التي تسيطر على جانب واسع من سوريا، وربما تحركت بالطموحات الانفصالية مع التفاعلات القائمة. انشغل العالم بعد السقوط بالوقائع المرعبة التي تطايرت صورها من سجن صيدنايا، درة التاج في دولة الخوف والصمت التي تأسست في عهد الرئيس حافظ الأسد، ليصبح الدرج السري الذي تطوى فيه ملفات الثمانينيات الصاخبة في سوريا، وفي لحظات أخذ السوريون ينطقون بالمكتوم والمسكوت عنه لعقود من الزمن، وخارج سوريا، بدأت حملات التنظير تتوالى بين فرض الوصاية على الشعب السوري واتهامه بالسذاجة، والتشكيك في المستقبل الذي يأتي تحت شعار ديني يتبدى في هوية المقاتلين وانتماءاتهم، وتكذيب ما كان الجميع يعرفه ويسكت عنه، حتى قبل انطلاق الثورة السورية في 2011، ورفض النظام اتخاذ أية اجراءات تصحيحية حقيقية أو جدية، واستهانته بالقفز إلى القمع المكثف والأعمال العسكرية العدوانية. داخل المشهد الأوسع، سقوط الرئيس الأسد هو جزء من سقوط أوسع لمشروع أبقاه على الأرض لسنوات، بعد أن بقي على الحافة طويلا، وتحديدا منذ تفجير مبنى الأمن القومي السوري في صيف 2012، حيث بدت دمشق وقتها متاحة أمام القوى المسلحة على جميع أطيافها، ليأتي التدخل الإيراني الواسع، وتتم مناقلة آلاف الكوادر من منتسبي حزب الله إلى سوريا لدحر الجماعات المسلحة، التي تمكنت من الاستيلاء على الدفقة الثورية العفوية وتحويلها إلى عمل عسكري واسع، وأتى التدخل الروسي بعد تعاظم المخاطر المرتبطة بجماعات إرهابية، عملت على مدى أوسع من الجغرافيا السورية، ووصلت الإهانة للنظام حدودها القصوى مع إبقاء الرئيس الأسد وراء ضيفه فلاديمير بوتين في زيارة إلى سوريا، وكان يكفي ذراع حارس روسي ليضعه في مكانه الحقيقي، وبتزامن الأحداث الساخنة التي توازت مع تفاعلات طوفان الأقصى في نهاية العام الماضي، كان الإيرانيون يواجهون للمرة الأولى تهديدات أوسع وأكثر جدية من كل المناورات السياسية السابقة، وبمجرد ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية، ظهرت معادلة دمشق مقابل كييف، وكانت كافية للروس المتورطين في حرب أدت إلى انكشاف كبير في إمكانياتهم وحدود قوتهم.

السوريون اليوميون والاعتياديون والبسطاء، غير معنيين بهذه المعادلات سوى من بوابة الخوف والاتقاء، أما شكل سوريا الجديد، فيعتمد على الذي أبقاه الرئيس الهارب وراءه، وهو قليل للغاية، فأمامهم بنية تحتية متهالكة، ومؤسسات قامت طويلا على أهل الولاء الأعمى، من الذين مارسوا بكل غباء وقصر نظر سياسات الإقصاء والتجفيف للكفاءات والمواهب، واقتصاد قائم على المحاباة والفساد الذي طويلا ما وضعت عصا الأوركسترا الخاصة به في يد رامي مخلوف، ابن خال الرئيس الأسد، قبل أن تنازعه أسرة الأخرس عليها، ومن هذا القليل، يواجهون تنظيما يعيش في صدمة الدولة بين السلفية والحداثة، وعليهم أن يبقوا أصابعهم على زناد أسلحتهم بصورة متواصلة، وفي مقابل الولاء الذي عملت دولة الأسد على صيانته، تأتي البيعة في المقابل لتكون الرابط الأساسي لدى الجولاني، أو أحمد الشرع، كما أصبح العالم يعرفه، وهي مفهوم أكثر تعقيدا وسيولة من التنظيم الحزبي المستقر لعقود من الزمن. المفارقة، أن يكتسب الرئيس شرعيته لدى أنصاره القلائل في داخل سوريا وخارجها، من بقائه حصنا في مواجهة ما يوصف بالإرهاب، ليمعن إرهابا في السوريين، وما لا يفهمونه على بساطته، أن سقوط الأسد كان غاية في حد ذاتها، لأنه يقف على رأس ثأرية طويلة وممتدة مع معظم السوريين، وأن الكثير منهم كان يعيش وهو يستحضر هذه اللحظة بوصفها الأمنية السرية التي تنكأ صدره، وأنه غير معني بما سيحدث، لأن الأسوأ لم يعد ممكنا، بعد أن استنفده وتمرغ في بقاياه الرئيس الذي أثبت للجميع أنه لم يكن يحب سوريا بمعنى الوطن والناس، بل ولم تشغله سوى كمزرعة تضمن له ولأسرته وأقاربه عيشا رغدا لا يعرف السوريون عنه شيئا في سعيهم المتصل والتراجيدي من أجل حياة أقل من عادية.

وسوم: العدد 1107