سوريا التي نحب… يدي على قلبي من المطبات

يوم الإثنين الماضي عقد مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة مفتوحة حول سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد، ودعت رئيسة المجلس، الوفد السوري ليأخذ مقعده بانتظار كلمته، على طاولة المجلس، إلى جانب ممثلين من المجتمع المدني السوري: وعد الخطيب، المنتجة السينمائية، وبدر جاموس رئيس الهيئة الدستورية السورية. فوجئ الجميع بأن الوفد السوري برئاسة السفير قصي ضحاك، قام بالانسحاب من الجلسة دون إبداء أي سبب أو اعتذار.

لقد أثارت هذه الحادثة كثيرا من اللغط والأسئلة حول حالة الفوضى التي تعيشها سوريا. فقد أعد السفير الضحاك كلمة تتحدث عمّا يجمع السوريين لا ما يفرقهم، لكن تعليمات وصلت من دمشق، والوفد جالس على الطاولة طلبت منه الانسحاب. أما تفسير ذلك، فيبدو أن هناك من يصدر الفرمانات الفردية دون الالتفات إلى عواقب ذلك من أضرار على الصورة التي يحاول قادة سوريا الجدد أن يقدموها للعالم.

من المهم أن تنضوي كل الفصائل تحت مظلة واحدة، وكل الجماعات المسلحة أن تصبح جزءا من جيش وطني مهمته الدفاع عن الوطن، لا حماية الديكتاتور، سواء كان دمويا أو ناعما

وبعد محادثات مع أطراف سورية عديدة، أقدم بعض الملاحظات على ما يتخوف منه السوريون الوطنيون، الذين يعملون على بناء دولة سوريا الحديثة التي تضم كل أبنائها وبناتها ولا تقصي أحدا ولا تظلم أحدا ولا تعيد إنتاج الديكتاتورية، حتى لو كانت ديكتاتورية ناعمة فالاستبداد شر في جوهره.
– من الواضح أن شخصا واحدا استفرد بالقرار، غير صورته من متطرف ملتح يلبس العمامة باسم «أبو محمد الجولاني» إلى رجل متحضر بعيد عن التطرف باسم أحمد الشرع، دون أن ينفي كونه إسلاميا، ولكنه إسلامي معتدل حضاري منفتح ينوي أن يقيم العدل والحرية وسيادة القانون. هذه صورته التي يعممها. في حكومة الإنقاذ في إدلب كان هناك فرض للباس الشرعي، خاصة الحجاب، وكانت الموسيقى ممنوعة في المدارس، لكن ذلك تغير ولم يطلب أحد من الناس في سوريا كلها الالتزام بأي قيود في موضوع اللباس. كما أن منح الأقليات الدينية حرية إقامة الشعائر والزينة ومظاهر الفرح أمر يبشر بالخير، إلا أن الخوف أن يكون ذلك عملا مؤقتا على رأي المثل الشامي «تمسكن لتتمكن».
– المثير للاستهجان أن حكومة الإنقاذ في إدلب نقلت بكاملها لتكون الحكومة الانتقالية في دمشق. فاقتصرت حكومة دمشق المؤقتة لمدة ثلاثة أشهر على لون واحد، مع إقصاء للآخرين، خاصة الائتلاف الوطني السوري ومقره إسطنبول، الذي يضم كوادر علمية وسياسة وتقنية عديدة، ويمكن الاستفادة منها والمساهمة في بناء الدولة الحديثة. كما أن قوى الجيش الحر التي أساسا انشقت عن الجيش السوري في مرحلة البداية عام 2011، يجب أن تكون ممثلة في الحكومة الانتقالية، كي لا يكون الإقصاء بذرة خلاف قد تتسع في المستقبل. من المهم أن تنضوي كل الفصائل تحت مظلة واحدة، وكل الجماعات المسلحة أن تصبح جزءا من جيش وطني مهمته الدفاع عن الوطن، لا حماية الديكتاتور، سواء كان دمويا أو ناعما.
– مخطئ من ينظر إلى هؤلاء الذين اجتمعوا في العقبة من أجل سوريا على قلب رجل واحد. أبسط النظريات أن هناك اتفاقا تركيا أمريكا إسرائيليا على إسقاط النظام واستبداله بنظام مهادن مسالم. وهنا أوضح بعض النقاط الأساسية، كما سمعتها من أطراف سورية مؤيدة للنظام الجديد.
هناك ثلاث مجموعات كل واحدة تريد أن تشد سوريا المستقبل إلى جانبها: الإمارات وإسرائيل ومن خلفهما الولايات المتحدة. هذه المجموعة تريد لسوريا أن تدخل محور المطبعين مع الكيان الصهيوني، مقابل رفع العقوبات وضخ أموال الإعمار بعد قيام إسرائيل بتدمير كل إمكانيات سوريا العسكرية، كي تترك البلاد عارية تماما من أي إمكانية لمقاومة أعداء البلاد. وقد ذكر لي صديق سوري أن بعض أطراف المعارضة في واشنطن طلب من الخارجية الأمريكية أن تتأخر في رفع العقوبات، من أجل الضغط على الحكومة الانتقالية لتشكيلها على هوى معين. هذا المحور لا يمانع أبدا أن تبقى مظاهر التطرف الديني المنضبط على البوصلة الأمريكية الإسرائيلية. وهذا المحور ليس معنيا بالديمقراطية ولا الانتخابات الحرة، ولا التعددية ولا سيادة القانون. المهم الانصياع للسياسة الأمريكية الإسرائيلية والانضمام لقطار التطبيع. وهناك محور آخر وهو محور تركيا ـ قطر الذي يريد أن يرى دولة على النمط التركي: طبعة من الإسلام الحضاري وانتخابات حرة وديمقراطية وتعددية وتثبيت تحالف عميق مع الدولة التركية، بحيث تأخذ الشركات التركية عقود الإعمار كافة، وستكون قطر حجر الرحى في إعادة الإعمار. المشكلة أن تركيا ليس لديها فائض مالي الآن للإعمار، وهمها الأول عودة اللاجئين والمهجرين وتحويل تلك المهمة إلى الأمم المتحدة عبر إنشاء بعثة مساعدة ضخمة. الولايات المتحدة وتركيا الآن في مواجهة عسكرية في مناطق قوات الحماية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية، ودعم حزب العمال الكردستاني. ولن تقبل تركيا مساومة في موضوع الأكراد، وهذا ما قاله بكل وضوح سفير تركيا في الأمم المتحدة أحمد يلدز في جلسة مجلس الأمن يوم الإثنين، حيث قال:
«لا يمكن تحقيق الاستقرار في سوريا، دون معالجة التهديد المستمر للإرهاب. وينبغي لسوريا أن لا تصبح ملاذا للجماعات الإرهابية التي تستغل فترة الانتقال لتعزيز أجنداتها. وعلى وجه الخصوص، لا يزال حزب العمال الكردستاني/وحدات الحماية الكردية وما يسمى «قوات سوريا الديمقراطية» والجماعات التابعة لها تشكل تهديدا خطيرا – ليس فقط لوحدة سوريا وأمنها ولكن أيضا للأمن الوطني التركي والمنطقة الأوسع. وتسلط هجماتهم، خاصة تلك التي تستهدف المناطق ذات الأغلبية العربية مثل الرقة ودير الزور، إن الحاجة ملحة إلى القضاء على هذه الجماعات لضمان سلامة جميع السوريين». وكان الحديث موجها أصلا للولايات المتحدة الداعمة لهؤلاء. هذا التوجه التركي القطري قد يكتب له النجاح، إذا وضعت السعودية ثقلها خلف هذه المجموعة وهو أمر غير واضح الآن.
أما الأردن ومصر فهمهما الأساسي، هو ألا تصل مجموعات الإسلام السياسي إلى السلطة، وتدعم الإمارات التي تلعب على كل الحبال هذا التوجه. الإسلام السياسي الذي يأتي نتيجة ثورة شعبية عارمة، لا بد من إفشاله كما تم إفشال التجربة المصرية والتونسية والليبية واليمنية. الأردن تريد نظاما ناعما إلى جوارها، لا يكون مصدر تهديد أو مصدر تصدير لحبوب الهلوسة، نظام يسترد اللاجئين ويتعامل مع الجيران جميعهم باحترام، ولا يشكل سندا للتيارات الإسلامية في المنطقة.
لا أحد ينكر أن إسرائيل هي اللاعب الأساسي في المنطقة، بعد التطورات في غزة ولبنان وسوريا وإيران، خاصة بعد وصول ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة للمرة الثانية. لكن الذي يفرط في أرضه وكرامته وكرامة شعبه ويردد شعارات جوفاء ويكرس عبادة الشخص، لا تلبث الأيام أن تكشف هذا الزيف وينهار عاريا في وضح النهار أو يضطر لأن يهرب في جنح الظلام إلى منفاه الأبدي مذموما مدحورا، ولنا في شاه إيران وزين العابدين والشيخة حسينة وبشار الأسد عينة من هذه الظاهرة.
ما نتمناه أن تعود سوريا لعشاقها العرب الذي فرشوا على ثراها أهدابهم، ووقعوا في حب ياسمين دمشق وغوطتها وسوق الحميدية ومقهى هافانا، حيث كنا نلتقي بمظفر النواب يحتسي قهوته على مهل. سوريا لنا جميعا فهي مركز الروح والقلب من بلاد الشام، وهي المجد الذي لم يغب ويعود ليشرق من جديد.، نريد أن نعود إليها نمارس حق القول والغناء والسير على ضفاف بردى دون خوف من المارة، عشت أول أيامي المهنية في ربوعها وتعلقت بها ولم أفارقها إلا في عهد سنوات الرعب والبراميل والقتل على الحواجز والتعذيب اللانهائي، نريد أن نعود بعد أن تستقر الأمور ويستتب الأمن وتلغى الطائفية وتنتهي أجهزة الأمن السرية والعلنية، لا أحد يسأل عن مذهب وعن دين وعن عرق ولا مكانة اجتماعية ولا يبحث عن واسطة ليسترد جواز سفره الذي صودر في المطار. تلك الشام التي عشقناها صغارا وترددنا على حاراتها وأسواقها وبساتينها كبارا، ولم نترك فرصة لزيارتها إلا واغتنمناها. فانتظري عودتنا قريبا يا دمشق ولا تبدئي العتاب على هذا الغياب.

وسوم: العدد 1107