ضفيرة من فرح وحزن... ولكل منا شأن يغنيه!!

وأتذكر من حالنا نحن السوريين، المغمورين بالنعمة، المنغمسين في سجدة الشكر، حالَ من لاب ولابت ثم آب وآبت، إلى يأس، وشعور مر بالخيبة..

أتذكر الذين رابطوا على أبواب المعتقلات حتى قيل قد فرغت، وعاد القليل من المؤملين بما برّد الغليل وشفى النفس..

وبقي أجيال من الأيتام واليتيمات، بنات وأبناء عشر، تعلقت أعينهم بالأمل حتى غرقت، سيعود بابا .. طوت المسكينة رأسها على وسادتها تهمس هل يعود؟؟ وانتظرت طرقته على الباب!!

وشدت الثكلى عصابتها على رأسها ما بين القامشلي ودرعا… تلوب على باب كل معتقل.. تسأل عنه الليل والنهار..

اسمه محمد..

شعره أشقر..

ضحكته نهار..

هل يعقل أنكم ما لحظتموه!! ما سمعتم عنه!! ما رأيتموه!! ونامت في الشوارع ليلة وليلة وليلة، التحفت البرد، كانت قد استدانت أجرة الطريق إلى دمشق، لا تسألوها ماذا أكلت خلال أسبوع…!!

شلت يد الظلم التي اغتالته!!

ثم انكسر العنق، وبردت اللهفة، وارتدت بالخيبة.. والآن شعرت أنه مات..!! هل هو الجواب النهائي؟؟ هل تدفن بيديها، هل تستطيع أن تحفر له في أعماق قلبها وحيدة، حيث هو هناك…لم يكن معها مشيعون، دفنته هي في مشهدها!! دفنه أبوه في مشهد آخر، دفنته زوجته في مشهد ثالث، لم يعرف طفله ابن العاشرة، ولا طفلته ابنة الثامنة كيف يدفنوه…فبقي عالقا في برزخ الذكرى..

كثير منا لم يعرفوا خلال نصف قرن، كيف يدفنون أحبابهم..

الديار بدون أهلها جداول لا ماء فيها..!!

كنت أسمع الشهداء على الناس من أيام زمان، بعد كل عملية دفن ينادون علينا: العزاء من السنة، يا أحباب..

وانتظرتها طويلا هذه الأيام..انتظرت أن أسمعها من أحدهم، تخرج من فمه، يدعو الناس إلى المواساة، إلى بذل بعض الحنان وبعض الإخاء والود....

ود أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته إليه: ولكن حمزة لا بواكي له!! وأجدني محتاجا لأتأكد من صحة الرواي، الصحة الاصطلاحية قصدت، فدلالة انتفاء صحتها عظيمة، ودلالة صحتها إن ثبتت أعظم!! وتثبتوا ثم تأملوا… واحشدوا فريقا من علماء النفس يشرحون لنا معنى الإسعاد في لغة العرب!!

بنات الهديل أسعدن أو عدن ... قليل الإسعاد بالإسعاد..

سورية مع كل الفرح التي عاشته، كانت يتدلى على صدرها ضفائر مجدولة من فرح ومن أحزان!!

و لا يستطيع غير النطاسي الخبير الماهر أن يجدل ضفائر الفرح والحزن غير الذين ملكوا أزمة حديث الروح للأرواح يسري… وعلى منابر منابر البوح هذه لا يحسن الصمت؟؟ أو التجاهل؟؟ أو دس الرأس في التراب، أو الانكفاء إلى الوِرد الشخصي..، وترك المنكسرة قلوبهم يعيشون الانكسار وحدهم..!!

وأسأل مع المنكسرين

لماذا لم تنصب في كل المدن والبلدات والقرى السورية نصب مآتم الفرح مجدولة بالحزن؟؟

طوبى للحزانى في ملكوت الله سيكون فرحهم وفرح أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم… وفرحنا معهم!!

أنا واحد من السوريين الذين ما زالوا منذ نصف قرن ينتظرون…

لماذا لا يطالب حملة راية الرشد بأن يبنى في كل مدينة .. بلدة.. قرية سورية صروح..

صرحٌ للشهيد المجهول.. قاتَل الطغيان والاستبداد..

وصرحٌ للفقيد المجهول.. خرج من بيته ولم يعد.. يوما عاثت في سورية !! الذئاب!!

وصرح ثالث للسجين المجهول دخل سجن الطغاة شابا قويا موفورا دخل سجن تدمر، أو فرع فلسطين، أو المخابرات الجوية، أو سجن صيدنايا ثم لم يخرج…!!

صروح يذكر فيها الأبرار بأوصافهم والفجار بأوصافهم. اللحمة الوطنية لا تنسج من نتن ولا من عفن ولا من كذب وادعاء…

ولم يكن حافظ الأسد ورفعت الأسد وبشار الأسد إلا واحدا من الذين قتلوا وعذبوا وانتهكوا..

لماذا؟؟ لماذا؟؟ لماذا!! لا نريد ان تتحول مآسينا إلى ذكرى!! بل نريدها أن تبقى دروسا حاضرة في كل قلب، ودمعة مغرورقة في كل عين…

أطوي الصفحة، في صباح هذه الجمعة، وأتقدم مع الخارجين من السجون والخارجات..

خرجوا من السجون الصخرية، والشكر لكل من كانت له قشة في فضل إخراجهم…!!

الأمر الذي يؤرقني في ضعفي وعزلتي؛ سؤالي: فهل خرج السجن منهم؟؟!!

هل خرجت الزنازين العفنة المدماة بكل ما كان فيها منهم؟؟ هو السؤال الذي ظل الأصعب عليّ!!

هل خرج السجن منها؟؟ دعونا نقول لها ولانبالي: أنها الأعز والأكرم والأطهر ، كذا هي في قلوبنا وفي عقولنا وفي عيوننا!! وإن كان من ذنب في كل ما جرى، ففي رقابنا يا أختُ.. يا بنتُ فنحن الذين عندما ناديتنا لم نكن حيث وجب أن نكون…

وهل خرج السجن والزنزانة منه؟؟ وكيف يجب أن نفعل لكي لا يكون أحدنا سجانا من نوع جديد، وبيده أو في عينه مثل أذناب البقر يجلد بها وهو لا يدري!!

كنت كلما انغلق عليّ أمر أجد جوابه عند أصحاب الفضل!! وأرى أصحاب الفضل صامتين مرتبكين مترددين.. فأشك في فضل أصحاب الفضل. وربما حتى حين، ففي الفقه باب لمسؤولية فعل المدهوش!!

(لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1110