لمسات فلسطينية من عُـمان
هذه هي المرة الأولى التي أحط الرحال في عُمان. وأول انطباع لي عن البلاد وشعبها، لم أكن أعرف الكثير عنها وأشعر بالذنب لأنني تأخرت عن زيارة هذا البلد العريق، الذي لا تملأ أخباره الأثير، ليس لأنه لا يصنع الأخبار، بل لأنه يعيش حالة سلام مع نفسه ومع الآخرين، فليس له مشاكل حدودية مع أحد، ولا نزاعات سياسية، ولا تنافس حول الآبار الحدودية، ولا محاولات للتأثير أو الهيمنة على أحد، أو التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد. يحاول أن يتوسط بين المتقاتلين بصمت، ويدعو المتحاربين إلى الحوار، لا يتفاخر إن نجح ولا يوزع اللوم إن فشل.
لذلك لا تحتل أخباره الصفحات الأولى للصحف، ولا النشرات الفضائية ساعة الذروة، لكنه يستحق الذكر والإطراء، ونقل الصورة الحقيقية لبلد جميل وعريق وغنيّ بشعبه وبتنوع أطيافه وتعدد تضاريسه ومعالمه الحضارية، ومقامات الأولياء الصالحين والمساجد العظيمة بألوانها البسيطة التي تنسجم مع ألوان البيئة.
هذه الانطباعات جمعتها خلال زيارة قصيرة مكثفة جدا في منطقة مسقط وضواحيها، خاصة مدينتي سمائل ونزوى، بصحبة الكاتب والشاعر عبد الحميد الجامعي، الذي تعرفت عليه في منتدى المجتمع المدني العربي بمدينة وهران الجزائرية عام 2022 وهو ابن الشيخ والقاضي والشاعر العماني حميد بن عبد الله بن سرور الجامعي، الذي جمع شعره في “ديوان أبي سرور” اطلعت عليه ووجدت فيه قصائد مخصصة للقدس، وتخاذل الأمتين العربية والإسلامية عن نصرتها.
* كنت حريصا على معرفة مشاعر الشعب العماني عن القضية الفلسطينية أولا، فأخبار التضامن مع فلسطين قليلة، لأن المظاهرات الصاخبة غير مألوفة في بلاد الخليج بشكل عام، لكن تصريحات مفتي الديار العمانية الشيخ أحمد بن حمد الخليل، حول عملية “طوفان الأقصى” كانت قوية جدا، لم يكن لها سابقة حيث قال: “وفق الله المقاومة الفلسطينية الباسلة في دفاعها عن حقوقها، واستبسالها في مقاومة العدو الغاشم المحتل. نسأل الله النصر العزيز والفتح المبين”. وعاد المفتي مرار ليطلق تصريحات قوية مقارنا بين الهجوم على غزة بغزوة الأحزاب على المدينة التي وقف فيها المنافقون، في المدنية سابقا وفي غزة حاليا، ضد الفئة الصابرة المؤمنة المظلومة. لكن الحقيقة أكبر من تصريح المفتي، أو التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، لتصل إلى أفراد الشعب صغيرا وكبيرا، نساء ورجالا، أطفالا وكهولا. قضية فلسطين بالنسبة للعمانيين ليست تضامنا وتأييدا وذرف دموع، بل قضية الشعب العماني بكامله. وكنت أسأل من ألتقي بهم سؤالا أكرره: هل تعتقدون أن عجلة التطبيع قد تصل إليكم يوما ما، أم أن عُمان عيية على التطبيع مثل شقيقتها الكويت التي تحاكم من يدعو للتطبيع؟ وكانت الأجوبة متشابهة تقريبا بأن عُمان لن تطبع مع العدو الصهيوني، حتى لو طبعت الدول العربية جميعها، وهذا أمر مفروغ منه على مستوى الدولة والشعب. إن موقف الشعب العماني نابع أولا من عقيدته الإسلامية الراسخة في الوقوف مع المظلوم ضد الظالم، ومع المعتدى عليه ضد المعتدي، ومع من أخرجوا من ديارهم بغير حق ضد من أخرجهم واحتل أراضيهم وبيوتهم. “فليطمئن شعبنا الفلسطيني العزيز، فإخوته وأخواته في عمان لن يطبعوا مع الكيان المغتصب، وسيقفون مع الشعب المظلوم حتى يسترد حقوقه ويبني دولته. واعلم يا أخي إنني رغم شغف قلبي بالقدس إلا أنني لن أزورها إلا وهي حرة، وعلم فلسطين يرفرف فوق قبابها”، قال محدثي في مجلس ضم عددا من العمانيين الكتاب والشعراء ورجال الدين.
* عمان بلد الشعر والشعراء. بلد الحرص على اللغة العربية السليمة. وهذا ليس غريبا على بلد أنجب الخليل بن أحمد الفراهيدي، الشعر شيء حيّ في مجالس العمانيين ومناسباتهم ولقاءاتهم. وفلسطين هي الموضوع الأساسي. يقول الشيخ حميد بن سرور الجامعي في قصيدته عن القدس بعنوان “فلسطين يا بقايا”:
أيها القدس كم تنادي ولكن لا حياة فمن ينادي الرماما
نحن أبناء يعرب نخوات فارغات على الجدود ارتساما
كانت العرب قادة للبرايا فادعينا ميراثها أوهاما.
بلد عريق، لا تملأ أخباره الأثير، ليس لأنه لا يصنع الأخبار، بل لأنه يعيش حالة سلام مع نفسه ومع الآخرين، فليس له مشاكل حدودية مع أحد، ولا نزاعات سياسية، ولا تنافس
وقد أهداني أحد الإعلاميين المعروف عبد الله الحارثي نسخة من ديوان شعر بعنوان ” محمد الدرة- مختارات شعرية” (عبد الله بن أحمد الحارثي -2001)، جمع فيه كل ما قيل من قصائد الرثاء في الشهيد الطفل محمد الدرة الذي استشهد بين يدي والده في أكتوبر 2000.
* شاركنا في منتدى أدبي في مدينة سمائل في ديوان الشيخ محمد بن عبد الله الخليلي، وهو ابن الشيخ عبد الله بن علي الخليلي، أكبر شعراء عمان وهو فقيه وعالم ومؤرخ، وأطلق عليه لقب “أمير البيان”. أقام أولاده منتدى باسمه يجمع أهل العلم والأدب والشعر ويلتقون مرة في الشهر لتبادل الأفكار والقصائد والحكايا، ثم يقيمون مهرجانا سنويا تخليدا لذكراه. ومن حسن حظي، أنا ورفيقاي الفلسطينيان، أن دعينا إلى المهرجان. كانت فلسطين هي الموضوع الرئيس في الأمسية، شعرا وأدبا وسياسة. وعندما علموا أن ثلاثة فلسطينيين قد حلوا ضيوفا على عمان، كان الترحيب حارا، لكن دون تصفيق، بل بالإيماءات ولغة الجسد وأحيانا الوقوف. وقد دعاني مضيفي وصديقي عبد الحميد الجامعي، أن أقف أمام الميكروفون لأجيب عن عدد من الأسئلة حول تطورات القضية الفلسطينية، بعد حرب الإبادة والتوصل لاتفاقية وقف إطلاق النار، ووصول دونالد ترامب للبيت الأبيض ومشروعه الأغرب حول تهجير غزة، وما يجري في الضفة الغربية المحتلة. وكنت أشاهد الحضور مشدودين للحديث كأن على رؤوسهم الطير. وأحسست أن تلك الفقرة لم تكن مدرجة على البرنامج، إلا أن الحضور الفلسطيني فرصة لا تعوض للاستماع إلى بعض التحليلات السياسية. وقد جاء أكثر من شخص ليؤكدوا لي أنهم يتابعون كتاباتي في “القدس العربي” وتحليلاتي على الفضائيات. إنه شعب واع ومثقف ومتابع، خاصة عندما يتعلق الأمر بفلسطين.
* وأكثر ما أثلج صدري دعوة طفل لا يزيد عن السابعة ألقى قصيدة عن فلسطين جوهرها يقول، إن الشعب العربي المسلم لن يتخلى عن فلسطين وسيظل يناضل إلى أن يحرر الٌأقصى. وكانت قراءته للشعر منغمة بلحن خاص منبعه مدينة سمائل.
* للمسجد الأقصى في عمان مكانة خاصة، كونه القبلة الأولى في الإسلام. فالأقصى عند العمانيين يمثل شيئا ملموسا فقد دخل الإسلام عمان في السنة السادسة للهجرة وأنشئت أولى المساجد في البلاد والمحراب متجه في قبلته إلى القدس، ثم تم بناء محراب ثان يتجه نحو مكة عملا بالآية الكريمة “ولنولينك قبلة ترضاها” وقد زرنا مسجد الصحابي الجليل مازن بن غضوبة، في ولاية سمائل الذي بني عام 627 ميلادية ومسجدا آخر في السوق القديمة في مسقط يضمان محرابين.
* الصحابي الجليل مازن بن غضوبة السعدي، هو أول من أدخل الإسلام إلى عمان حيث ذهب في السنة السادسة للهجرة للقاء رسول الله عليه السلام في المدينة ثم عاد ونشر الإسلام. أما عمان فهي أول من دخل الإسلام كدولة في العام الثامن للهجرة بعد أن استلم ملوكها رسالة من الرسول عليه السلام، يدعوهم فيها لدخول الدين الجديد وكان ذلك. ضريح الصحابي في مدينة سمائل في مكان يخلو من الفخامة والبنيان الكبير. ففي عمان ومعظم دول الخليج لا تعطى القبور مظاهر الفخامة والأبنية المميزة والسرادق لاستقبال المريدين والمتبركين بالصحابة والأولياء.
* منذ معركة طوفان الأقصى أطلقت “قناة الاستقامة الفضائية” العمانية برنامجا يوميا تحت عنوان “طوفان الأقصى” لمتابعة التطورات في غزة وفلسطين. ومع أن القناة متخصصة في نشر المحبة والإخاء والتسامح، بست لغات بعيدا عن الطائفية والمذهبية إلا أنها خصصت برنامجا يوميا مدته ساعة تحت عنوان “طوفان الأقصى”. كما أن هناك برنامجا آخر بعنوان: فلسطين في وجدان الشاعر العربي. وقد دعاني القائمون على القناة للمشاركة في برنامج “الطوفان” لأقدم للمشاهدين في جلسة حوارية مع المذيع عبد الله بن محمد العبري صورة عما يجري في فلسطين من مآسٍ ومواجهات ومؤامرات وصمود وتضحيات وظلم.
* وجدت في عمان شعبا طيبا مضيافا ملتزما بدينه وأمته وملتفا حول قضية فلسطين تماما. وأجمل ما شاهدت أن المساجد غير مقسمة حسب الطوائف، بل للجميع يصلي فيها السني والشيعي والأباضي دونما تفريق. الإمام الحاضر يؤم بالناس ولا يسألون لأي طائفة ينتمي. أليس هذا أفضل دواء لداء الطائفية الذي مزق البلدان وأغرقها في صراعات أكبر من صراعها مع أعداء أمتها الخارجيين؟
وسوم: العدد 1117