المرتشون الجدد
محمد جلال القصاص
في عام 2009 اضطرتني الحالة البحثية التي دخلت فيها بكتاب "الكذاب اللئم زكريا بطرس" إلى دراسة عباس العقاد، ونشرت دراستي عن العقَّاد تحت عنوان "عمالة عباس العقاد للفكر الغربي"، وحاول ثني عن هذا الاسم الشيخ رفاعي سرور -رحمه الله- وغيره، يقول: حتى لا ينفر الناس ويقرؤون؛ ولم أتراجع أقول: هدف البحث تقرير حقائق، والفكرة إن وجدت من يقبلها – قلَّ أو كثر – فإنها لا تموت، وكثرة الجماهير لا تعني شيئًا في طرحٍ كهذا، والتطوير لا يأتي بالتزام ما قد تعارفوا عليه، أو الاحجام ما قد تخوفوا منه، ولسببٍ آخر أهم لم أتراجع عن هذا الاسم:
كان المعلم الأهم الذي برز أمامي هو أن مفهوم العمالة تغير، أو هو متغير من الأساس، وهم يخدعوننا في الأعمال الفنية بتسويق حالة واحدة من العمالة، تلك التي يتفق فيها العدو مع العميل سرًّا حيث لا يراهم أحد.
الحقيقة أن العمالة لها معانٍ كثيرة.
المخالف له عملاء من أنواع شتى، بعضهم يتفق هواه مع المخالف فيردد قوله إيمانًا بما عليه المخالف، يردد قوله كليةً كما كان يفعل طه حسين، أو يردد بعضًا من أقواله كما كان غيره، أو يأخذ بعض أفكاره ويسوقها بيننا، كما فعل عباس العقاد، إذ أخذ فكرة العبقريات.. كونها أعجبته لا باتفاقٍ سري مع المخالف، وراح يقرأ التاريخ الإسلامي بهذه الفكرة الغريبة التي تقول بأن الأحداث صنعها العباقرة، وغير صحيح ما ذهب إليه العقاد وغيره من أن العباقرة هم صناع التاريخ، فلولا الوحي ما كان شيئًا مما حدث، ولرحلوا منها كما رحل غيرهم من آبائهم وأجدادهم دون أن يحس بهم أحد.
ودعَمَهُ المخالف وأولياء المخالف بتمكينه من منابرهم الإعلامية. والثناء عليه، وترجمة بعض ما كتب- علمًا بأنهم ترجموا ما أنتجه العقاد بأفكارهم هم وتركوا ما لا يروق لهم من القليل الذي دافع به عن الإسلام في سياق إيجاد بديل غير الإسلاميين بعد اعتقالهم، وأيضًا تركوا ما تحدث فيه عن يهود، وكان حديثه عن يهود في سياق الفجوة التي أوجدتها القومية حينها، وكانت فقط كلامية غطت على ضياع فلسطين وأتمت احتلالها-. ويأخذ التلميع أشكالًا قد يكون بعضها الفصل والاضطهاد. وفي كتاب "عمالة عباس العقاد للفكر الغربي" تفصيل لهذا الأمر.
ولازالت العمالة متعددة الأشكال، فسعيد رسلان عميل، مع أن هذا الجاف الغليظ ربما لم يخرج من قريته، وربما لم يلتق أحدًا من بني الأصفر ولا من أوليائهم؛ بل ربما لا يريد شيئًا من عرض الدنيا جزءًا على ما يقدمه من سفاهات، ولكنهم يدعمونه بشكلٍ ما، ربما بتركهم إياه يتحدث، وربما بعروض تأتيه ويرفضها، ثم يسوقون رفضه على أنه زهد في الدنيا، وهكذا، وفي النهاية يسعى هو والمخالف لهدف واحد، ينالون به من الجادين.
ومن صور العمالة دعم المراكز البحثية والفعاليات الإسلامية التي لا تشارك في التصدي للمخالفين، وخاصة في الصراع القائم على أرض الواقع فيما يعرف بـ "ثورات الربيع العربي"، تلك الفاعليات التي تصرف الناس لأمور لا علاقة لها بما يحدث على الأرض، ويكون هدفها أخذ الناس من الفاضل للمفضول... من الواجب العيني الذي يفرضه الوقت إلى شيء آخر يبدو حسنًا.
ويأتي في هذا المضمار دعم القنوات الفضائية، وأوكار "البحث العلمي" السلفي المنتشرة في الشارع السلفي كمقاهي البلطجية في شوارع مصر القديمة، من قبل المخالف، وهو هنا الخليجيون المتربصون بالأحرار في العالم الإسلامي، فيكون حال هؤلاء هو عمالة للمخالف... نعم عمالة وإن ورمت أنوف قوم، وخاصة حين يكون لديهم البديل ولا يفعلونه، وخاصة حين تكون مواطن النصرة الحقيقية للدين شاغرة ولا يسدون الثغر، وخاصة حين تتعارض المواقف فيصطفون مع من يدعمهم.
هذه الأوكار البحثية ظاهرة في الشارع السلفي، تخدِّم على حالة الجهل والتجهيل وخاصة في الحالة المصرية؛ وقد اصطفت بقصدٍ أو بدون قصد في صفوف المجرمين.
وفي هذه الأوكار البحثية "المرتشون الجدد"، هؤلاء الصغار الذين حملهم غيره على كتفه (في فضائياته وصحفه) وأطعمهم من مائدته (رواتب علمية مغرية ما كان لهم أن يحصلوا على عشرها من بلدهم)، وظنوا أنهم حين اجتمع حولهم حفنة من الطيبين حديثي العهد بالالتزام أنهم على شيء. وليسوا على شيء، إنهم في حقيقة أمرهم مرتشون، أو –إن أحسنَّا الظن- يختانون أنفسهم، وشاءوا أم أبوا هم جزء من المنظومة المعادية للدين.