ياسمين آذار المخضب بالدم 60

محمد فاروق الإمام

ياسمين آذار المخضب بالدم

محمد فاروق الإمام

[email protected]

(الحلقة 58)

تفقد طلاس للوحدات المؤيدة للرئيس حافظ الأسد

بعد أن أصبحت القيادة العامة للقوات المسلحة في وضع آمن وكذلك القصر الجمهوري ومنزل السيد الرئيس قررت أن أنطلق بزيارات ميدانية لكافة أنواع وصنوف وتشكيلات قواتنا المسلحة, وكان يرافقني بهذه الزيارات العماد علي أصلان نائب رئيس الأركان. وفي كلمتي التوجيهية العامة التي كان يحضرها الضباط وصف الضباط والجنود كنت أهاجم بقسوة الهيمنة الأمريكية وعملاءها في المنطقة ودعم أمريكا غير المحدود للعدو الصهيوني وتحيزها المكشوف له ومعاداة كل هدف يخدم مصلحة الأمة العربية. وكنت أنوه بالمآثر القيادية للرئيس حافظ الأسد ودوره في بناء سورية الحديثة وحرب تشرين وحرب الاستنزاف للدفاع عن استقلال لبنان ليبقى دائماً عربي الوجه واليد واللسان.. كما كنت أشيد بالدور الوطني الذي لعبته المقاومة اللبنانية ضد الجيش الإسرائيلي وضد الجيوش الأجنبية التي جاءت لتشد من أزر إسرائيل ضد أمتنا العربية, وكانت هذه الكلمات تلاقي صدى إيجابياً لدى المستمعين كافة.

وفي اللقاءات الخاصة مع الضباط حتى مستوى قائد كتيبة كنت أضعهم في صورة المؤامرة كاملة وأسمي الأسماء على المكشوف بصراحتي المعهودة, وفي نهاية الجولة كان التشكيل الذي أزوره يقدم لي وثيقة عهد بالدم ولاء للسيد الرئيس.

وكانت أخبار اللقاءات تصل للسيد الرئيس سواء عن طريق القنوات الرسمية أو الخاصة, وكان سعيداً بالنتائج وأن الجولات بدأت تعطي ثمارها ميدانياً وقد سحبت البساط من تحت أقدام رفعت ولم يعد أحد في القوات المسلحة ينخدع بأنه الحارس الأمين لشقيقه سيادة الرئيس.. وسألني القائد الأسد فيما إذا كنت أقوم بهذه الجولات يومياً.. واعترفت للرفيق الأمين العام للحزب بأن العماد مصطفى طلاس لم يعد مثل المقدم طلاس أيام زمان عندما كان يفلح الأرض شرقاً وغرباً في أوائل ثورة الثامن من آذار وإبان الحركة التصحيحية وفي أيام الإعداد لحرب تشرين المجيدة!. فقال: إذن كيف تبرمج وتيرة العمل؟..

فأجبت أقوم بزيارة التشكيلات يوماً وأرتاح في العمل المكتبي يوماً آخر..

فقال: هذا جيد تابع العمل على نفس الوتيرة وذات النهج.

وكان موعد السابع عشر من نيسان 1984م مكرساً للقاء مع الفرقة الخامسة في موقع أزرع, وطلبت إلى قائد الفرقة اللواء (احمد عبد النبي) أن يدعو قيادة الفرع في درعا وأمناء الشعب الحربية كما يدعو كافة الوجهاء والمثقفين والمخاتير وزعماء العشائر في حوران لأن السابع عشر من نيسان هو عيد وطني لكافة شرائح المجتمع ويجب أن يعكس الاحتفال هذه الحقيقة.. ولبى المدعوون جميعاً الدعوة وازدان المكان بصور الرئيس الأسد وأعلام الحزب وأعلام الجمهورية غير أن أمين الفرع (أحمد زنبوعة), والمحافظ (محمد مصطفى ميرو) اعتذرا عن الحضور بحجة أن لديهم جولة حزبية في وادي اليرموك..

قلت لقائد الفرقة: ألم تقل لهم أنني قادم إلى المحافظة بتوجيه من رئيس الجمهورية حافظ الأسد وأن اللقاء رسمي وليس جولة عسكرية أو حزبية..

فقال: والله لقد قلت لهم ذلك ولكنهما آثرا التملص لسبب ما أجهله..

فقلت له: إنهما من المنافقين المرتبطين مع العميد رفعت وسوف أجعلهما يدفعان ثمن الهروب مهما طال الزمن.

علم العميد رفعت الأسد بهذه الزيارات الميدانية فحاول أن يستبق الموضوع وبعث إلى سيادة الرئيس عهداً كاذباً بالدم من سرايا الدفاع ولكن الكلام الذي يخرج من القلب يدخل إلى القلب أما الكلام الذي يخرج من اللسان فلا يكاد يتجاوز الآذان ومن هذا المنطلق لم يجد (عهد النفاق بالدم) الذي أرسله العميد رفعت أي صدى لدى سيادة الرئيس.

وبعد اثنتي وستين جولة ميدانية إلى المناطق العسكرية كافة وتشكيلات قواتنا المسلحة بأنواعها وصنوفها تمت صياغة كتاب (عهد بالدم) الذي قدّمته لسيادة الرئيس في عيد ميلادي الثاني والخمسين أي في 11/5/1984. وكانت المقدمة التي تصدرت وثائق العهد بالدم من أروع ما كتبت في النواحي السياسية والقومية.

يوم الجمعة الحزينة 13/4/1984م

في الساعة الخامسة بعد الظهر اتصل اللواء علي حيدر من مقره في معسكرات القابون وأبلغني بأن المعلومات المتوافرة لديه أن سرايا الدفاع بدأت بالتحرك من بين أشجار الزيتون باتجاه دمشق..

وبعد لحظات اتصل العميد عدنان الأسد. قائد سرايا الصراع ضد الدبابات وقال بأن سرايا الدفاع تحركت باتجاه دمشق وأنه يراها من معسكر (المعضمية) بالعين المجردة..

كما أعلمت مفارز المخابرات العسكرية المنتشرة على كافة محاور الطرق المتجهة إلى دمشق بهذا التحرك.. وهتفت إلى الرئيس الأسد وأعلمته بالأمر وبعد أقل من دقيقة هتف الرئيس الأسد وقال لي: لقد اتصلت بالعميد رفعت وأكد لي أن المعلومات التي أعلموك بها كاذبة ولا أساس لها من الصحة.. وقلت للرئيس الأسد: إنني على يقين كامل بأن العميد رفعت قد أمر عناصره بالتحرك وهو يريد أن يكسب الوقت..

وقال لي: سأتصل من جديد وأعلمك..

وبعد خمس دقائق لم يتصل وإنما اتصل العميد عدنان مخلوف قائد الحرس الجمهوري وقال بأن السيد الرئيس قد توجه بمفرده إلى مقر شقيقه رفعت الأسد (في ضواحي المزة) وأعطاه التوجيه التالي: إذا لم أعد بعد ساعة من الآن قل للعماد طلاس أن ينفذ الخطة وعليك في الوقت نفسه أن تعطي التعليمات لقادة الفرق أن لا ينفذوا أي أمر إلا إذا كان صادراً عن العماد طلاس.

(الحلقة 59)

غياب الرئيس حافظ الأسد واضطراب قيادته العسكرية

يقول طلاس معبراً عن قلقه وما أصاب القيادة العسكرية من اضطراب: كانت الساعة التي غاب فيها الأسد عن عرينه تعادل دهراً بكامله (وأن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون) كانت القيادة تعيش على أعصابها وكذلك قادة التشكيلات الضاربة لأن المعركة ستكون ضارية ولا أحد منا يريد أن يصاب مواطن بريء بأذى.. وكان العميد رفعت يطبق تكتيكات صديقه ياسر عرفات (أبو عمار) لأن من عادة المذكور الاختباء بين المدنيين حتى لا تطاله الضربة مباشرة. وجاءنا الفرج قبل خمس دقائق من الموعد المحدد لتنفيذ الخطة, فقد تمكن الأسد بحكمته وشجاعته وحنكته من أن ينزع فتيل الأزمة وتم سحب الدبابات من المواقع التي وصلت إليها في جنوب وشمال دمشق. وحتى يعيش القارئ في جو الأحداث سأروي له ما جرى في تلك الجمعة الحزينة.

اتفق الرئيس الأسد مع شقيقه رفعت أن ينتظره رفعت في نهاية طريق (أوتوستراد المزة) ومن هذه النقطة توجها إلى الطريق المحلق الذي يؤدي إلى المطار وإلى دوار (كفر سوسة). وفي دوار (كفر سوسة) ترجل الرئيس وشقيقه وقال له: انظر بعينيك إلى الدبابات التي كنت تزعم أنها لم تتحرك.

وطلب الرئيس الأسد إلى قائد السرية الملازم أول (معين بدران) أن يعيد الدبابات إلى مكان تمركزها, ولكن قائد السرية بقي في مكانه متجاهلاً أوامر سيادة الرئيس وكأنه آخذ سيجارة حشيش: وكان رفعت مسروراً من هذا المنظر لكي يوحي إلى السيد الرئيس بأن الأمور خرجت من يده وأنه غير قادر على لجم اندفاع الضباط وحماسهم في مؤازرته للاستيلاء على السلطة.. هنا خرج الرئيس الأسد عن هدوئه المعهود وقال لقائد السرية بصوت قصم ظهره: أنا قلت لك أرجع الدبابات إلى أماكنها فوراً، عندها صعد العميد رفعت بحركة مسرحية على ظهر الدبابة وصفع الملازم معين كفاً على خده قائلاً له: نفذ أوامر الرئيس هل أنت أطرش لا تسمع.. وعادت الدبابات إلى أماكنها وعاد الرئيس الأسد والعميد رفعت كل إلى مقر قيادته، وهكذا انزاحت الغيمة السوداء عن صدورنا وعن صدر الوطن.

خطة القيادة في مجابهة سرايا الدفاعع

والتفت شاعرنا وقد أضاع "شاروخه" في الزحمة إلى زميله المقدم مروان السباعي المسؤول الأمني في المنطقة الشمالية وقال له::

وحولك "ركّة" تدعى اتحاداً .. فخذ نعلاً ودق بها وآجر

ومع كل هذه الحقائق والتوضيحات فقد وضعنا تصوراً لمجابهة التمرد على الشكل التالي:
لدى تحرّك وحدات سرايا الدفاع لاحتلال الأهداف الرئيسية في مدينة دمشق يقوم سلاح الطيران بتوجيه ضربة كثيفة بالقنابل الارتجاجية والصواريخ المضادة للدبابات مدتها ثلاثون دقيقة، بعد ذلك تقوم صواريخ أرض – أرض بتوجيه ضربة نارية إلى مواقع الخصم وبنفس الوقت تقوم طائرات "الغازيل" وال "ميج 25" التي تحمل صواريخ "جو – أرض" بالتحليق فوق التشكيلات المناوئة لضرب أي تحرك!. كما تقوم بنفس المهمة وحدات سرايا الصراع ضد الدبابات واللواء(65) (احتياط القيادة العامة المضاد للدبابات).

في اللحظة نفسها ومع بداية الضربة الجوية يكون الرئيس الأسد والعماد رئيس الأركان ونائب رئيس الأركان لشؤون العمليات والتدريب وعدد من الضباط الأمراء والمساعدين من الاختصاصات كافة قد غادروا دمشق إلى موقع قيادة تبادلي في معسكرات الجلاء (الكسوة) ويبقى اللواء (91) دبابات كحراسة مباشرة لمقر القيادة بينما تتوجه باقي ألوية الفرقة لتشتبك مباشرة مع ما تبقى من سرايا الدفاع في معسكر "المعضميّة" وتكون الفرقة التاسعة نسقاً ثانياً للفرقة الأولى لمتابعة مهمتها إذا لزم الأمر..

كما تقوم الفرقة الثالثة بالاستيلاء على مقرات وحدات سرايا الدفاع في موقع "يعفور" وكان موقع تمركزها الميداني في (وادي القرن) يساعدها على إنجاز المهمة وتكون الفرقة السابعة كاحتياط للفرقة الثالثة إذا لزم الأمر.

وتم الاتفاق أن أظلّ في مقر القيادة الرئيسي ومعي رئيس هيئة العمليات وقائد القوى الجوية وقائد الدفاع الجوي ورؤساء الهيئات التي لها علاقة بالتأمين القتالي (المادي والفني والطبي).

كان قادة التشكيلات يحثونني على إقناع الرئيس الأسد بتنفيذ الخطة وكذلك أجهزة القيادة العامة جميعاً، وكان أكثر المتحمسين العماد حكمت الشهابي والعماد أصلان واللواء علي دوبا وقادة الفرق كافة.. وكنت أقول لهم:

(الحلقة 60 والأخيرة)

محاولة اعتقال رفعت الأسد الفاشلة

كان قادة الفرق والتشكيلات يتكلمون مع العميد رفعت الأسد بقصد إخافته وإرهابه بأن أي تحرّك معادي ضد الرئيس الأسد سوف يجابه بالقوة.. وكانوا ينقلون ردود فعله إلى سيادة الرئيس أولاً ثم إلى القيادة العامة ثانياً، وفي إحدى المرات.. قال له اللواء إبراهيم صافي قائد الفرقة المدرعة الأولى: أخي أبو دريد شو رأيك بأن أدعوك إلى الغداء في مطعم العندليب وهناك تلتقي مع قادة الفرق وتحدثهم بنفسك عن أسباب الأزمة الناشبة بينك وبين سيادة الرئيس بدون مراسلين؟.. وكان جواب العميد رفعت بالموافقة وتم تحديد التوقيت الساعة الثانية بعد الظهر.

أعلمني اللواء إبراهيم صافي بذلك وقال لي: لقد وضعت الرئيس الأسد بالصورة وكذلك العماد حكمت واللواء علي دوبا والشباب محضرون وجاهزون لاعتقاله مع مرافقته..

اتصلت بالرئيس الأسد وقلت له: إذا رفض العميد رفعت الاستسلام وأصر على المقاومة.. ماذا نفعل؟.. فأجاب: إنها شريعة الحرب إما غالباً وإما مغلوباً وأنا لا أريدك إلا غالباً.

C.M.C) بيك آب مزودة بزجاج دخاني تسمح لمن بداخلها فقط أن يرى ولا يُرى.. وهي مملوءة بالعناصر المرقّطة والمبرقعة.

وبدلاً من أن تتوقف أخذت تمر من أمام المطعم لتقول نحن جئنا حسب الموعد.. فماذا تنتظرون؟.. وسألني اللواء صافي: ماذا نفعل؟.. فأجبته: اتركهم وشأنهم وسيعودون إلى وكرهم إذا أبديتم عدم اهتمامكم، وأعلمت الرئيس الأسد بالأمر.. فقال: حسناً تصرفت..

بداية المقاومة

في أواخر نيسان من العام 1984م بدأ العميد رفعت يشعر بأن ميزان القوى قد مال لصالح شقيقه الرئيس الأسد لدرجة لم تعد تسمح له بالحركة إطلاقاً فاتصل بشقيقه جميل الأسد ليمهّد له المصالحة مع أخيه وأنه جاهز لأي عمل يرتئيه.. وكان الرئيس الأسد ينتظر بفارغ الصبر انهيار رفعت ورضوخه إلى السلطة، ونجح الرئيس في لعبة عض الأصابع، ومن هذا المنطلق أعلم شقيقه جميل بالموافقة على طلب قائد سرايا الدفاع.. وبدأت المفاوضات الصعبة، ومع أن الرئيس الأسد مقيّم دولياً وعربياً أنه سيد من أتقن فن هذه اللعبة، ولكن في الطرف الآخر هناك أيضاً سيد من ابتزّ أخيه وغير أخيه وبعد أن وافق على الخروج من سورية ثم العودة عندما تهدأ الأمور بدأ يساوم على المبلغ الذي يحتاج إليه للإقامة عدة شهور خارج البلاد حتى تهدأ العاصفة، ومع أن الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي وقائد الحرس الوطني كان يدفع له شهرياً خمسة ملايين دولار كما أن الشيخ خليفة آل ثاني لم يقصّر ومثله ياسر عرفات والشيخ سحيم آل ثاني.. إلخ، فقد طلب مبلغاً من المال بالقطع النادر لم يكن متوافراً في المصرف المركزي لأن الدنيا كما يقول المثل السائد وجوه وأعتاب ونواصي، فمنذ أن تسلّم الدكتور عبد الرؤوف الكسم رئاسة الوزارة فقد خيّمت غمامة من الشؤم على سورية لا مثيل لها.. فمرض الرئيس حافظ الأسد مع أن بنيانه الجسمي متماسك لدرجة تقترب من حدّ الأسطورة، ومات خمسة وزراء في عهده، وأصبح المصرف المركزي خاوياً حتى من الفئران كي لا أقول من الدولارات.. وسُدت منافذ الرزق في وجوه المؤسسات والأفراد وسائر العباد وبدأ الناس في سورية يتساءلون متى ينزاح ظل هذا الغراب عن الرقاب.. المهم فكّر الرئيس الأسد من أين يأتي بالمال اللازم لإشباع فم أخيه رفعت.. وارتأى أن الرئيس معمّر القذافي يمكن أن يكون الشخص الذي يحل هذه المشكلة فأرسل كتاباً خاصاً إلى قائد ثورة الفاتح من أيلول (سبتمبر) مع اللواء محمد الخولي رئيس إدارة المخابرات الجوية، وعندما وصل إلى طرابلس الغرب كان القذافي والحمد لله بمزاج حسن وتذكّر مواقف الأسد القومية في دعم ومؤازرة الثورة الليبية ورد على رسالة الأسد رداً جميلاً وتم تحويل المبلغ بكامله إلى المصرف المركزي وأعطى الرئيس الأسد شقيقه جزءاً منه وبقي الجزء الأكبر احتياطاً للطوارئ الاقتصادية التي كانت تعصف بنا وما كان أكثرها.

وتم الاتفاق على أن تعود سرايا الدفاع لتوضع بتصرف هيئة العمليات في القوات المسلحة، وتم تشذيبها بحيث بقيت في حدود ملاك الفرقة المدرعة زائد كتيبة دبابات مستقلة، كما تم الاتفاق على أن يبقى الفوج (555) بتصرف العميد رفعت كنائب لرئيس الجمهورية مسؤولاً (نظرياً) عن شؤون الأمن لأن الرئيس الأسد أحرص من أن يسلّم أمنه الشخصي وأمن البلاد لرجل لا يتقي الله لا بوطنه ولا بأهله..

كما تم الاتفاق أن يسافر معه إلى موسكو اثنان من الضباط الأمراء طلبهما العميد رفعت شخصياً وهما اللواء شفيق فياض واللواء علي حيدر كما سافر معهم اللواء الخولي وكان ذلك بطلب خاص من العميد رفعت حتى يطمئن أن الطائرة لن تنفجر بعد إقلاعها بالجو، وصدر أمر الإيفاد بتاريخ 28/5/1984م وسافر العماد ناجي جميل مع حاشية العميد رفعت، وما حزّ في نفسي كثيراً أن العماد ناجي هو الذي طلب أن يسافر العميد رفعت، ومع أن الفارق كبير بين رتبة العماد ورتبة العميد، فإن العماد ناجي كان يخاطب العميد رفعت دائماً بكلمة (سيدي) أقول هذا الكلام والغصّة في حلقي لأن للعسكرية هيبة لا يجوز خدشها ولا يجوز مسّها وإلا تصبح العسكرية ضرباً من الانكشارية.

وظل الرفاق قرابة شهر في موسكو، وكان العميد رفعت ومجموعته قد ودّعوا موسكو بعد سلسلة من المقابلات البروتوكولية الشكلية مع المسؤولين السوفييت، وبهذه المناسبة لابد من شهادة حق للتاريخ فقد كان موقف أصدقائنا في موسكو مع الرئيس الأسد قولاً واحداً وكلّفوا رسمياً مستشار قائد الوحدة (569) (سرايا الدفاع) بأن ينقل إليّ عن طريق كبير المستشارين الجنرال "غوردينكو" الحالة النفسية للعميد رفعت وضباطه، وكنت أنقل هذه المعلومات لسيادة الرئيس كما كنت أضع الرفاق في القيادة العامة بالصورة وكانت هذه المعلومات مفيدة للغاية بالنسبة لنا لأنه أمر أساسي لتقدير الموقف أن تعرف حالة الخصم النفسية..

وضاق اللواء شفيق واللواء علي حيدر ذرعاً بالإقامة في موسكو وخشيا أن زحمة أعمال الرئيس الأسد قد تؤخّر صدور الأمر الخاص بعودتهم إلى أرض الوطن، وأرسل إليّ اللواء شفيق رسالة مؤثّرة واتصلت هاتفياً بهم إلى موسكو وطمأنتهم بأن الرئيس لن ينسى أبداً أبناءه، وعندما أعلمت الرئيس بالموضوع استغرب وقال لي: هل أمضيا شهراً في موسكو؟.. وعندما أجبته: نعم.. قال: أصدر نيابة عني الأوامر بعودتهم إلى أرض الوطن.

وهكذا عاد أبو علاء وأبو ياسر من بلاد الغربة، مع أن الإقامة في موسكو ذلك الحين كانت تعتبر مثل الإقامة في باريس باستثناء أن الإقامة في موسكو كانت تكلف أقل بخمس مرات، ولكن شعور المرء أنه يعيش الغربة وأنه ليس ذاهباً بإجازة أو نزهة تجعل الحياة صعبة لا تطاق.

وهكذا أسقط الأسد – كما يقول طلاس - جميع الرهانات المعادية المحلية والعربية والأجنبية التي كانت ترى بوصول العميد رفعت الأسد إلى السلطة هو انضواء سورية تحت المظلة الأمريكية ونهاية لوقفة العز والشموخ التي اتّسمت بها المسيرة التي قادها أمين هذه الأمة.

بهذه الحلقة ختمنا ما جرى في سورية منذ تسلق حفنة من ضباط حزب البعث في الثامن من آذار 1963 جدران السلطة في دمشق غيلة وغدراً، متوخياً الحيادية والموضوعية والمهنية بكل صدق وأمانة، آملاً أن تكون قد أدت الغرض واستوفت الحال، راجياً أن أتمكن في قابل الأيام من تقديم حلقات دقيقة ومفصلة عن حقيقة الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام السوري وما لحق بسورية من تداعيات وأحداث جراء هذا الصراع الدموي، متعهداً أن تكون هذه الحلقات تنبض بالصدق والموضوعية والحيادية دون الانزلاق أو الانحياز إلى أي جهة كانت والله الموفق.