صناعة الخيال
يسري الغول
أذكرنا صغاراً، نتحلق حول التلفاز، نشاهد ألف ليلة وليلة، ونحلق بخيالاتنا بعيداً، نركب بساط الريح، نسافر إلى مدن أكثر رقة وجمالاً مما نعيشه أو نحياه، فنسأل دون أن تقع بين أيدينا الإجابة. والشجرة تكبر وتكبر حتى تصل فروعها سقف السماء، ونحن نصغر ونصغر حتى يمسي عالمنا مجرد قرية صغيرة محدودة المعالم.
ورغم هذا الصغر المتنامي للعالم، إلا أننا لم نعد نجد متسعاً من الوقت لنجلس فيه إلى جوار الأهل والأبناء، فقد انشغل كل منا بعالمه، وصارت التكنولوجيا وبالاً على أصحابها، فالإعلام الجديد والعولمة لم تعودا صالحتين لتوطيد الوشائج والعلاقات، فالزوج منشغل بحاسوبه، والزوجة منشغلة بالـ"أي باد" أو هاتفها المحمول "تطق الحنك" مع زميلاتها أو أقاربها، أو مشاهدة اليوتيوب، بينما يتوه الأطفال في المنزل، يفتشون عما يشغلهم عن حالة الرتابة والملل، فيبحثون عن ونيس ورفيق يصنع لهم عوالمهم ويرسم لهم دربهم.
أذكرنا صغاراً، نجلس بقرب كانون النار، وجدتي تجلس لتحكي لنا القصص والحكايا عن أمنا الغولة والسندباد وحسن صبي وغيرها من القصص المضحكة والمحزنة والمجنونة والغريبة، فتتسع خيالاتنا لتصل حدود الكون، ونظل نسأل ونسأل حتى تنزعج جدتي وتنام.
إننا بحاجة اليوم للعودة إلى مربعنا الحقيقي، وهو مربع الأسرة، والجلوس في كنف العائلة، ولم شمل الأطفال والزوجة، نقرأ ونتحدث ونستمع لأطفالنا وأسئلتهم الغريبة والساذجة دون الانتقاص منها أو الاستهانة بها، أو حتى إشعارهم بسذاجتها. على أن تكون تلك الجلسات متنوعة، فنقرأ معهم القرآن الكريم وقصص الصحابة وقصص الجاهلية وقصص الحداثة وصناعة القدوة في عقول الأطفال، فنرسم بخيالاتنا عمر وصلاح الدين وعنترة وابن رشد والبيروني وابن سينا.. إلخ. لأن التكنولوجية الحديثة جعلت من بِن تِن وسوبرمان وسبيدر مان قدوات لأطفالنا حتى تجاوزوا مرحلة القادة الحقيقيين والمفكرين والعلماء العرب، فصار الخيال العربي مختزلاً في شخوص غربية لا تمت للواقع بأي صلة، وهو ما سيكون له تأثير سلبي على مستقبل أطفالنا.
ولعل الأزمة التي يمر بها قطاع غزة اليوم من انقطاع التيار الكهربائي وأزمة الوقود، وفي ظِل الأجواء الباردة، من الممكن أن تكون منحة وهبة من الله لنا كي نعود إلى أحضان الأسرة الدافئة، والجلوس في حلقة واحدة، يُحضِر فيها الأب كتاباً أو قصة، يقرأ من خلالها حكايته، فيظُهِر الصور للأطفال، ويعطيهم الكتاب ليصنعوا حكايتهم وكأنهم يقرؤون، فكل ذلك سيعمل على سعة الخيال لدى الأطفال، وهو ما سيزيد من قدرتهم في المستقبل على الابتكار والاختراع.
وأختم، بأن مشكلة الأب أنه يرى واجبه يتمثل تجاه أطفاله في تأمين الملبس والمأكل وتامين فرصة التعليم فقط. بينما ترى الأم دورها متمثلاً في في الطهي والتنظيف والاهتمام بنظافة الطفل والمساعدة في الواجبات المدرسية. ونسي كلاهما أن هناك ما هو أهم، عقل الطفل وقلبه.