الحب المستحيل

م. زياد صيدم

[email protected]

(1)

ويأتيني الصديق مرة أخرى يريد البوح كعادته .. فأجلسته يرتشف من قهوتي.. يبدأ من حيث توقف المرة السابقة ...

-   أيعقل بان يكون هناك شيء اسمه الحب المستحيل..؟ سألني دون مقدمات ..

-   نعم هذا ممكن بل أكيد يا صديقي ..وباعتقادي ينقسم إلى نوعين من حيث الاستحالة فإما أن يكون غير قابل للبقاء والتجديد والانبعاث ومن هنا كانت استحالته ..وإما أن تكون الاستحالة نابعة من إحدى دروبه التي تقود إلى الممكن بالحفاظ عليه حيا قائما نتيجة الحرص على إبقائه متوهجا فى أعماق القلوب دون أن يكون له تداعياته التي تسيء للآخرين أو يكون عرضة للعيون المتلصصة والألسنة الثرثارة .. التي تؤدى حتما إلى تعزيز وبلورة المعنى اللفظي للمستحيل ..فلا يمر عبر دهاليز تقود إلى استحالة هذا الممكن.. وبالتالي إلى إمكانية استمراريته بالرغم من المعوقات القائمة والدروب الشائكة التي هي أساس لتساؤلاتك دوما يا صديقي ...

يهز برأسه كما لو كان غير مقتنع ..ويهم بالوقوف مستأذنا الانصراف بعد أن ابتلع في جوفه آخر رشفة قهوة كأنه قدح من نبيذ ابيض ! ولم أتبين بعد سر هذه الحركة منه حتى اللحظة ! أهي انعكاس للماضي.. أم هي عصبية اعترت تفكيره اللحظي !....

جلست أفكر في أمر هذا الصديق الذي أعاد ذاكرتي للوراء سنين طويلة من تجارب الماضي واستحثني لاستحضار ما كتبه مشاهير الفلاسفة عبر التاريخ حول موضوع الحب بأنواعه ومدى احتياجات الإنسان له .. فتلمع في داخلي تراكمات ثلاثة عقود خلت باستدراج الذاكرة النشطة حدثيا – إن صح التعبير - دون سواها من لغة الأرقام والتواريخ التي أمقتها بشدة .. محاولا فتح أبواب موصدة بأقفال وضعت فى أماكن معتمة حتى لا يراها أي كان .. وكل هذا داخل تلك البوتقة المشكلة من عضلة ودماء وشرايين وأوردة .. تنبض لتدل على أن الإنسان ما يزال على قيد الحياة...لكن وجدتني لا أجد أيا منها ؟! ..فلتبقى إذا بكل أسرارها هناك رابضة لن يجلوها بوح ولن تجد طريقها للنشر ...إن وضع صديقي هذا لا يحسد عليه حقا .. وبنفس الوقت يسعدني ويفرحني ويرعبني بنفس الوقت ؟؟ بأنه مرتاح جدا لا شواهد توتر بادية عليه بل راضٍ وسعيد فى حبه المستحيل وباى صورة كان ..وباى شكل يريده الحبيب له أن يكون و إن اختلف مع أمنياته العاصفة أحيانا والذي يحاول كسر آخر عقبات فى عقل حبيبة ما تزال عالقة ! .. فهذا لاشك يمثل دليلا صادقا على انه يعيش حبه بإحساس متميز ومختلف وفريد من نوعه .. يعتبره الأخير في حياته.. يدق بوابات قلبه فلا يريد فقده وخسرانه ..وأرجح يقينا بأنه قد اعتبره آخر حب يمس شغاف قلبه ويتوغل فيه الى درجات مجنونة...

 أشعلت سيجارتي ومضيت متمتما في باطن عقلي مرددا: حقا لا مستحيل في الحب .. فهو الشيء الوحيد الذي باستطاعته دق جميع الأبواب مهما كانت ظروف استحالتها.. لأنه قادر على تفكيك معظم عقدها وإزاحة أشواكها.. ليرسم طريقا ينفذ من خلاله عبر بوابات هذا المستحيل .... يتبع -

(2)

إلى متى سيرغمني هذا الصديق على إشعال سيجارتي بعد أن اتخذت قرارا بالإقلاع عنه نتيجة لشحه في الأسواق وغلاء أثمانه كسبب ليس بالأساسي وإنما هو قرار عائد إلى أمور أخرى لا يعرفها غير من تهيأ لسن الخمسين ...

-   أهلا بك يا صديقا مزعجا يمازحه ثم يقهقه.. تفضل هنا إلى جواري وأفصح عما لديك وفضفض ما بقلبك يا صاحب الحب المستحيل .. فأنى أراك مرتاحا ..تظهر أسنانك خلف ابتسامة وردية تفضح فرحك وانفراج أساريرك..هكذا بدأ مخاطبته قبل ان ينبس بأي حرف أو كلمة ....

-   صدقت يا صديقي فقد لاح لى القمر في ليلة هادئة فحرك بداخلي نشوة الفرح وارتقت كلمات الشعر تنثال من شفاه الورد أشعارا كأنغام يرددها كروان يناجى حبيبه على غصن مقابل..فيحرك الأشجان وتتناثر أنغامه فتطرب لها الأذان ويختلج لها الفؤاد وتنفرج أسارير الجوى ....

-   يتنفس صديقه الصعداء ..بأنه لن يلجأ إلى سجائره التي اقلع عنها ..ليرفع سبابته أمام وجهه ..كأنه يحذره من شمس لاهبة تعقب تلك الليلة القمرية الساحرة ..فكأنه يخشى عليه من ذوبان عطر الندى الذي أصاب جورية حبيبه فتناثر في الأنحاء أريجها الخلاب ..

وهنا اعتدل الصديق كما لو كانت كلماته قد مسته بتيار كهربائي جعلته متوترا فى لحظات كان ما يزال هائما بليلته القمرية التي جعلت منه طائرا يحلق بعيدا في عنان السماء.. كان يحاول أن يطمئن صديقه بأنه رغم المستحيل الجاثم على يقين الواقع التعس والحزين.. إلا انه يستطيع أن ينسج من ظلمته نجمة يضعها على صدر حبيبه.. وتاجا من ماس يكلل به رأسها لتصبح ملكة النجوم ..فهي ملاكه الذي من خلاله يستل من قهر الأيام حلاوتها ..ومن وسط الروتين نشاطه ومن ظلم الحقيقة عدالة العاشقين التي لم تقرها شرائع الأرض بعد فهي قاصرة أن تصل إليها !!

يتبع -