أهوارنا في أمريكا الجنوبية
كاظم فنجان الحمامي
لوحة طبيعية ساحرة, مستنسخة (طبق الأصل) من أهوار جنوب العراق, وجدتها تتموضع منذ قرون, على ارتفاع 3812 متراً فوق سطح البحر, في مستنقع جبلي هائل من مستنقعات جبال الأنديز, على الحافات الحدودية المحصورة بين (بيرو) و(بوليفيا).
أهوار تأسر القلوب بمناظرها الخلابة, تقع على الوجه المقابل لأهوارنا من سطح كوكب الأرض, لكنها وعلى الرغم من بعد المسافة بين (بيرو) والعراق, تكاد تكون نسخة ثانية لأهوارنا الجنوبية, حيث المسطحات المائية المترامية الأطراف, وغابات القصب والبردي, والطيور البرية المهاجرة, وأسماك المياه العذبة, وأساليب العيش البدائية, والزوارق المعقوفة الأعناق, ومجاديفها الطويلة, حتى المنازل القصبية (الصرائف) تكاد تكون نفسها باستثناء بعض الاختلافات الطفيفة في اللمسات الخارجية.
تتألف الأهوار الأمريكية من بحيرتين رئيستين, يفصل بينهما مضيق بعرض (800) متراً, يدعى (مضيق تيغونا Strait of Tiquina), أما الهور الأكبر فهو هور (لاجو غراندي Lago Grandi), أو هور (تيتي كاكا Titicaca), الذي تتراوح أعماقه في حدود (135) متراً, وتبلغ أعمق نقطة فيه حوالي (284) متراً, بينما تنخفض الأعماق في الهور الصغير (لاجو بيغيونو Lago Pequeno) إلى عمق تسعة أمتار.
تصب في تلك الأهوار خمسة أنهار, هي رامز, وكواتا, وأيلافا, وهوانكين, ونهر سوشز, ويصب فيها أيضاً أكثر من عشرين جدولا صغيراً, وتتوسطها (41) جزيرة, أكبرها جزيرة (
), معظمها مأهولة بالسكان.تُصرِّف الأهوار الأمريكية مياهها إلى بحيرة (بوبو Poopo) عن طريق نهر (ريو ديزاكوادرو), الذي يتدفق جنوباً نحو الأراضي البوليفية.
من المفارقات العجيبة أن مياه الأهوار الأمريكية تعرضت للانخفاض التدريجي منذ عام 2000, حتى بلغ انخفاضها (81) سنتيمتراً في عام 2009, وسجلت الملوحة ارتفاعاً ملحوظاً في الأعوام الماضية, وكأنها تريد أن تعلن عن تضامنها الجغرافي مع هور العمارة, الذي فقد معظم مياهه, وتحول إلى بحيرة مالحة آسنة.
الغريب بالأمر أن الناس هناك يتحدثون لغة محلية يقال لها (عمارة Aymara), ومن لا يصدق هذا الكلام يجده على الرابطة التالية:
http://en.wikipedia.org/wiki/Aymara_language
تقارب بيئي عجيب, وتناظر طبيعي مدهش, وتماثل معيشي يثير التساؤلات, لكننا عندما نمعن النظر في البحث عن نقاط الاختلاف والتطابق بين أهوار العراق وأهوار الأنديز, نكتشف بدائية التصاميم المنزلية في أهوار الأنديز الأمريكية, فبيوت القصب والأكواخ العشوائية المصنوعة من عيدان البردي, غير مرتبة وغير منتظمة الأشكال, بينما نجدها في أبهى صورتها الحضارية في أهوار جنوب العراق, أما قوارب الصيد, وزوارق النقل في الأهوار الأمريكية, فهي وإن كانت أدنى بكثير من مستوى التفوق الهندسي في أهوارنا, وبخاصة في المكونات الانسيابية للقوارب العراقية المتباينة الأشكال والأطوال والاستعمالات, والتي دائما ما تكون دقيقة الاتزان, خشبية القوام, مطلية بالقار, لكننا نجدها تقتصر في الأنديز على صناعة زوارق البردي (الثنائية البدن), أو ذات الأبدان المزدوجة, والتي تعد من أقدم أنواع الزوارق السومرية القديمة.
أما الفوارق الكبرى التي ترجح كفة أهوار الأنديز على أهوارنا, والتي تتعدى الأعماق السحيقة لتلك الأهوار, وتتجاوز ارتفاعاتها العالية بالمقارنة مع أهوارنا, هي أنك لن تجد من يحمل على كتفه قاذفة أو بندقية أوتوماتيكية حديثة, ولن تجد من يحمل في جعبته مجموعة من الرمانات الهجومية, أو كمية من الممنوعات, ولن تجد الذين يصطادون الأسماك بالسموم والمواد الكيماوية القاتلة والأسلاك الكهربائية الصاعقة, ولن تجد النزاعات القبلية العقيمة, التي تراق فيها الدماء, ويموت فيها الناس بالعشرات لأسباب تافهة وبذرائع سخيفة, ولن تجد الأمراض الفتاكة التي تتكاثر في مياهنا الراكدة, مثل الملاريا والكوليرا والرمد الحُبيبي, ولن تجد المدارس الفقيرة الآيلة للانهيار.
الناس هناك لم يتخلوا عن عفويتهم, ولم يتجردوا عن طيبتهم, تراهم يرتدون ثيابهم التقليدية الزاهية, يعلمون أولادهم مبادئ التعايش الطبيعي مع بيئتهم العذراء التي لم تنتهكها راجمات الحروب العابثة مثلما انتهكت أهوارنا, ولم تجتاحها بلدوزرات التخريب والتجريف والتجفيف مثلما جففت أهوارنا, أهلها يتقنون صناعاتهم التراثية ويتباهون بها, لا مكان للجواميس ولا للأبقار ولا للخنازير في أهوار الأنديز, فقطعان (اللاما) هي الحيوانات الوحيدة المسيطرة على تلال المنطقة, وهي حيوانات وديعة من صنف الثدييات, من فصيلة الجمليات.
لقد أبدعت المرأة الأنديزية في صنع ملابسها ومفروشاتها من صوف اللاما, حتى ليعجب المرء من جمال التكوينات اللونية والخطوط والخيوط, التي تُنسج بهذه المهارة.