الصورة وأصلها

الصورة وأصلها

وائل خليل

لقد كان للصليبيين ما خططوا ومكروا، وذلك منذ أن دحرهم صلاح الدين، حين أدركوا أنهم لن يستطيعوا القضاء على دولة متينة البنيان وطيدة الأركان ثابتة الكيان، قائمة على فكر أساس لا يدانيه في القوة أساس، وعليه تركز مخططهم على هدم هذا الأساس ومحاولة طمس معالمه من أذهان المسلمين، وعمدوا إلى الصورة الناصعة التي كانت عليها الدولة الأولى في العالم أيام عصورهم المظلمة فقطعوها إربا.

وحتى لا يستطيع المسلمون أن يعيدوا تركيب هذه الصورة مرة أخرى عمدوا إلى طمس بعض قطعها وتغيير معالم بعضها الآخر. انتصروا على الصورة لأن الله لم يتعهد بحفظها...، ولكنه سبحانه وتعالى تعهد بحفظ أصلها الذي هو القرآن والسنة.

وقد قامت العديد من المحاولات لترميم تلك الصورة دون الاعتماد على أصلها. ونجحت بعضها في ترميم أجزاء منها... وانطلقوا يبنون تصورهم لنهضة الأمة على ذلك الجزء المرمم. فقامت حركات تعتمد على الأخلاق أو الأعمال الخيرية أو الثقافة والتعليم وإصدار الكتب أو الدعوة والتبليغ، كل حسب الجزء الذي استطاع ترميمه. وقد نجح بعضهم في جمع الصورة كاملة، ولكنهم لم يتنبهوا للطمس المتعمد بالأفكار الغريبة والمناقضة للإسلام، مثل الحريات والديمقراطية المزينة بكلمة الشورى، وفصل السلطات... إلى آخره. فكان ما كان من فشل ذريع لتلك المحاولات في إنهاض الأمة. فلا الفكر السطحي الذي اعتَمد على جزء من الصورة... ولا الفكر العميق الذي اعتمد على الصورة الكاملة كما وجدها بمفهومه المغلوط... كانا نافعين.

أما أصحاب الفكر المستنير، فقد تفطنوا إلى أن الصورة كانت فعلا ناصعة...، والشاهد عليها هو هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف والمتكون من قوميات وأجناس وألوان متعددة، اجتمعوا على كلمة سواء... هي "لا إله إلا الله محمد رسول الله". هذه الكلمة التي صدع بها محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم في قريش، التي كانت تعاني من الجاهلية والتنافر والعصبية القبلية. فكانت لا إله إلا الله محمد رسول الله هي الفكرة الأساسية، التي انبثقت منها مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات، قد أوجـدت بمجـمـوعـهـا النظرة إلى الحياة، وتبعاً لها وجدت النظرة إلى المصالح، فكان أن انقلبت الجاهليةُ نهضةً والعصبيةُ القبليةُ أخوةً في الإسلام.

ولكن هذه الفكرة لم تنهض بقريش في بداية الأمر لأنها لم تتفاعل معها، بل على العكس حاربتها، وكذلك اليوم... فترديد هذه الفكر ترديداً خالياً من مضمونه لن ينهض بالأمة الإسلامية. فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

وبما أن الله تعهد بحفظ دينه، أي حفظ أصل الصورة، وجب علينا دراستها بعمق واستنارة حتى تصبح مبلورة ونقية وصافية، وبذلك نستغني عن ترميم ما تركه لنا الحاقد الصليبي مشوها، إمعانا منه في سد كل الطرق أمام نهضة أمتنا.

وقد تصدى لهذا العمل العظيم والشاق، الشيخ الجليل والعالم الأزهري تقي الدين النبهاني رحمه الله، فاهتدى إلى المبدأ وتفاعل معه حتى تبلور لديه وأصبح واضحا عنده، وعندها قام بتأسيس حزب التحرير على أساس هذا المبدأ، وجذَّر فيه قاعدةً ثابتة، وهي أن الفكر لا بد أن يتصل بالعمل، وأن الفكر والعمل لا بد أن يكونا من أجل غاية معينة يهدفان إليها، فكانت هذه القاعدة العملية التي قام عليها الحزب هي الأساس في كل أعماله وكل ما أنتجه من أفكار، كما أنه عرّف السياسة تعريفاً إسلامياً صحيحاً، عاد فيه إلى النصوص الشرعية وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأدرك أن الذي يعمل لإنهاض الأمة النهضة الحقيقية لا بد أن يكون عمله سياسياً بهذا المفهوم الصحيح، وأن ينشئ تكتلاً يقوم بهذا العمل لأن العمل الفردي لا يجدي، تماماً كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أنشأ تكتلاً فكرياً سياسياً في مكة هو تكتل الصحابة، خاض به صراعاً فكرياً ضد أفكار الكفر في مكة وكفاحاً سياسياً ضد صناديد قريش ومؤامراتهم، حتى نصره الله ومكَّنه من إقامة دولة الإسلام في المدينة، وعلى نفس الأساس أُنشئ حزب التحرير، حزبًا سياسيًا مبدؤه الإسلام، يسعى لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة في أنصع صورها: خلافة على منهاج النبوة، فيُنْسِف أحلام الكفار المستعمرين الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وسينال الحزب بإذن الله تعالى، وكل من التحق بدعوته من الأمة الإسلامية، شرف إتمام هذا النور الإلهي العظيم.

"يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (8) سورة الصف