للرحمة شكل آخر، أحياناً
ناديا مظفر سلطان
طرقت بابي ذات صباح ، تسأل على استحياء ، حدثتني والدمع يبلل خديها الغائرين:
لم يستطع اولادي النوم ليلة البارحة ، كان الجوع يعتصر بطونهم الخاوية ، شكا لي ولدي حمَاد:
"يا مو ، جوعان و بردان ..."، دفعتُ إليه ب "راس بصل " وقبضة من ملح ، وقلتُ له ، أكثر من الملح يا ولدي لتشعر بالعطش ، فتشرب الماء ، وتمتلئ معدتُك الخاوية ، فتنام ...
غابت عني أم حسن بضعة أسابيع ، ثم عادت ذات صباح ، طالعتني بمقلتين حمراوين وأجفان مقرحة ، وعبارات مبتورة ، يقطعها نشيج مكتوم وشهقات حرى، استطعتُ بشق النفس أن أفهم أن
"حمَاد قد مات" .
انقلب به "الطنبر" ذات مساء عاصف ، بسبب وعورة الطريق ،وغزارة المطر ، فدكت عنقه ، ومات على الفور.
ماتت الكلمات هي الأخرى على شفتي ، وفقد كل مال أو طعام ، يمكن أن أقدمه لها ، معناه وقيمته . وغابت عني الأرملة الثكلى من جديد لأسابيع أخرى ...حتى
طرقت الباب ذات يوم ربيعي مشرق ، كان شيء من الإشراق يطل من وجهها الهزيل المكدود ، وظل ابتسامة باهتة يخيم على عينيها التائهتين ، بادرتني بالقول : زارني حمَاد البارحة بالمنام ، لوح لي بيده من بعيد ، ثم هتف بي ضاحكا مستبشرا : يا مو ، لقد مررتُ على الصراط بيسر وسهولة ، ثم بدا شيء من القلق والحزن على وجهه : يا مو أدعو الله أن يتغمدك بالرحمة وتعدَي الصراط فلا تتعثري وتسقطي.
لقائي هذا مع "أم حسن "كان في عام 1995 ، وعندما كانت حلب ترفل بحللها البهية ، من أسواق فاخرة ، وليال ساهرة ، ومساجد عامرة ، في نعيم زائف يخفي وراءه ظلم وقهر عظيمين.
ليس جديدا على أطفال وطني أن يكون الجوع ضجيعهم .. الفارق فقط ، أنه بالأمس كان لفقر وعوز وفاقة ، واليوم كان لحصار لئيم حقود ، فرضه سفاح الشام وزبانيته على غوطتها وأهلها ، كما فرضه على معظم مدن سوريا . صاح أب قائلا وهو يغص بالدمع و يضم جثة طفلته: رجتني أن أطعمها قالت لي : يا بي اليوم مو أنا دوري بالأكل ؟ ثم نامت وهي جائعة.
كل من بقي حيا ليلة قصف الغوطة بالكيماوي يحكي، أن أطفالها ناموا جياعا ، كما لياليهم السابقة ، حتى عصفت بهم ريح السموم التي نفثتها الصواريخ المحملة بالغازات القاتلة ، فرحل الأطفال بسلام وهدوء إلى عوالم الرحمة ، حيث أنهار اللبن و العسل المصفى ، ينهلون منها دون حساب ، وحيث الثمار والأعناب أزكى وألذ من تلك التي كانت تجود بها غوطة الشام وبساتينها الغناء ، خالدين ، دون حزن يصدع القلب ، أو خوف يقلق المنام.
وكما أن ملك الموت يحمل أحيانا معه الرحمة من الله ، للجياع والمظلومين ، لينقذهم من قسوة هذا العالم المنافق المخادع ، فإن له أيضا أن يأتي بالرحمة على شكل آخر .
وفي سورة الكهف معنى عجيب للرحمة ، ودور غريب يؤديه العبد الصالح الذي آتاه الله "الرحمة "
ونبي الله موسى وفتاه التقيا هذا العبد الصالح يوما
" فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمنا من لدنا علما "
والنبي موسى كان تواقا للعلم ، فعرض على الرجل الصالح أن يرافقه ، عسى أن ينتفع منه وينهل من علمه .
فوافق ، مشترطا على موسى الصبر كشرط من شروط الرحلة .
ومن يقرا قصة رحلة موسى مع العبد الصالح للمرة لأولى ، لعله يتوقع من هذا الرجل الموصوف بالرحمة أن يبادر إلى إصلاح سفينة المساكين فإذ به يفسدها !، أوأن يهرع إلى الغلام البريء الذي يلعب مع أترابه ، ليقدم له الألعاب والحلوى ، فإذ به يقتله ! !!!...،هكذا ودون سبب ، في عنف تصاعدي مبهم يزهق الأنفاس ويأخذ بالألباب .
ولكن إفساد السفينة كان رحمة لأصحابها المساكين ، وقتل الغلام كان رحمة وإنقاذا لأرواح كثيرة . ولربما كان هذا الغلام "حافظ "آخر أو" بشار" آخر ، يدمر وطنه ويضيّع شعبه بين سجين وقتيل ولاجئ ، أوربما كان بوتين آخر يساهم بقتل الأطفال ، دون أن يرف له جفن أو تختلج فيه عضو .
أو ربما كان شبيحا سافلا سيرقص طربا على جثث الأطفال ، في قسوة تتبرأ منها وحوش الغابات ومصاصو الدماء .
وهكذا فالحكمة الالهية تجعل الرحمة متلازمة مع العلم ، ولكن العلم جهد يتطلب الصبر .
وفتية الكهف عندما لجأوا إليه فرارا من الحاكم الطاغية ، لم يسألوا الله رحمة من لدنه فحسب ، بل أتْبعوا السؤال بطلب "الرشد "، و"الرشد" لفظة شاملة، تعني الهدى والحكمة والتبصر، لاتباع الحق واجتناب الباطل .
إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا"
فالخلاص من هيمنة الطغاة تتطلب "الرحمة" أولا للإفلات من جبروته ، وتتطلب "الرشد" ثانيا لتدبر الأمور بعد الخلاص من الديكتاتورية ، لتحقيق ديمقراطية واعية ، وعدل شامل .
حكت لي "مقيمة في حلب " عن جشع التجار ، و الاحتكار ، وسرقة الصدقات وزكاة الأموال ، ووصفت لي كيف هجرت إحداهن منزلها لتؤجره لمن فر من مناطق الاشتباك ، ثم سكنت في إحدى المدارس مع الفارين ، لتنعم بمال الصدقات "سرقة" ، وتوفر أجرة منزلها .
"وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون"
نحن بحاجة إلى قناطير من الرحمة تنقذ نفوسنا من رواسب حكم فرعون الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب.
بعد مجزرة الكيماوي وصلتني رسائل تدعو لقراءة القرآن رحمة لشهدائها ، والشهيد - سيما إذا كان طفلا كبراعم الغوطة - حي عند ربه يرزق ، ولكن الرحمة مطلوبة لنا نحن المتفرجون على آلام أهلنا ، وبعيدة لمن يتاجر بها ، بعد الفردوس عن سقر ، ومستحيلة لمن بيده مقاليد الأمور، فأعرض وأدبر .
ملائكة الرحمن كتبت أن حمّاد مات يوما جائعا و مقرورا ، فأذاق الله بلاده لباس الجوع والخوف ، ومرّ هو على الصراط دون خوف . وأمُه لازالت حيّة ، تناضل لكسب عيشها ، لعل دعاء ولدها ينجيها من عثرة الصراط ، فماذا نحن فاعلون؟
"لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون "النمل آية 46