أليس الصبح بقريب؟!
شريف زايد
إن المسلمين منذُ أن سيطر عليهم حكمُ الكفر بعد هدم دولة الخلافة سنة 1924م، وصارت إلى الكفارِ والمنافقين والمرتدين أمورهم، وهم يحاولون أن يتحرروا من سلطانِ الكفر، وسيطرةِ أربابه وأعوانه. بيدَ أنهم بعدَ أن خلعوا بعضَ الظالمين من حكامهم في تونس ومصر وليبيا، لم يدركوا أنَّ تغيير النظام لا يكون فقط بإزالةِ رأسه، بل يجب تغييُر النظامِ برمته، لأنه نظامٌ يخالفُ عقيدتهم، فنظام الحكم الذي يجب أن تسعى الأمة ليكونَ النظام الذي يحكمها هو نظامُ الخلافةِ الذي بيّن رسول الله والصحابة من بعده أدقَ تفاصيله.
فمنذُ سقوطِ حسني مبارك، ظهرَ اتجاه مضاد بقيادة القوى الغربية وحلفائها في الخليج لتحطيم أو السيطرة على الثورات العربية، فلقد حاولوا باستماتة الإبقاء على الهيمنة الغربية بشكلٍ أو بآخر. ولقد نجحوا إلى حد كبير في ذلك، وقد تم لهم ذلك لعدم وجودِ مشروع سياسي مناهض للهيمنةِ الغربية، وبديل عن النظام الحالي لدى القوى الفاعلة الأساسية على المسرح السياسي، بل يمكننا التأكيد على عدم وجود أي برنامجٍ سياسي فعلي لتلك القوى بديل عن النظم السابقة، لا الإسلامية منها ولا غير الإسلامية. وقد وضح هذا بعد فشل الإخوان في مصر، والنهضة في تونس في إحداث أي بوادر لنهضة حقيقية، وعدم القدرة على معالجة المشاكل التي يعاني منها الناس في البلدين، والذين يتصدرون المشهد السياسي الآن ويقدمون أنفسهم كبديل عن حكم الإخوان لا يملكون أيضا أي تصور للنهوض بالبلاد، كما لا يملكون القدرة على معالجة مشاكل الناس الحقيقية، وها هي مصر تكاد تعود إلى نقطة الصفر أو إلى ما قبل 25 يناير على أيديهم، وتونس - النهضة مرتبكة كذلك تكاد أن تتعثر وتلحق بمصر.
ربما تكون تونس ومصر وليبيا قد أزالت كابوسَ الطغاة ومخابراتهم، وقلصت نفوذَ العصابات الناهبةِ للثروات لفترة من الزمن، ولكن هذا الأمر لم يدم طويلا، ونكاد نعود لما هو أسوء منه. فهل خرج الحكم عندنا من القبضةِ الغربية؟! لا! هل خرج بخروج مبارك من الحكم؟ لا! هل خرج باستلام المجلس العسكري للحكم؟ لا! هل خرج بمجيء الدكتور مرسي للحكم؟ لا! هل خرج بعد إخراج مرسي من الحكم؟ لا! هل خرج بهيمنة السيسي على مقاليد البلاد بشكل فعلي؟ لا! من كان يظن ذلك فليراجع نفسه.
لا شكَ أن أمريكا تخلت مرغمةً عن عميلها مبارك في مصرَ تحت وطأة الثورة الشعبية، وما كانوا يحبون لأنفسهم ولا لعملائهم أن يُطردوا على هذا النحو المذلّ وبهذه السرعة المفاجئة، وبالتأكيدِ لم يكونوا يتمنون أن يصلوا إلى هذا المشهد المربك لهم، ومع ذلك فإن زمام الأمور لم تنفلت من أيديهم طوال الفترة الماضية، وهذا مما يؤسف له. فقد ظهر أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو أداة أمريكيةٌ صلبة، تقاتلُ بما أوتيت من قوةٍ من أجلِ الحفاظِ على الهيمنة الأمريكية، وعلى الحلف اللعين مع كيان يهود. والمجلس لم يختفِ من المشهد السياسي في مصر، حتى في ظل حكم مرسي الذي أقال شخصيات بارزة فيه، على رأسهم المشير طنطاوي والفريق عنان، تبيّن بعد ذلك للكثيرين من المتابعين أن الإقالة تمت بإرادة أمريكية، وإن كنا بيّنا وقتها ذلك. لقد عاد العسكر بقوة إلى المشهد السياسي مرة ثانية ومن دون ستار، فستار الحكومة المؤقتة والرئيس المؤقت مزيف مفضوح، لا يمكن أن يخفي حقيقة أن السيسي هو المتحكم في شئون البلاد.
ولعل السؤال الأبرز في تلك اللحظة الفارقة هو الآتي: هل نحن في طريقنا لتأسيس ديكتاتوريات جديدة تحت المظلة الأمريكية؟ هل نحن بصدد صناعة زعيم صاحب السلطة المطلقة؟ وهل يمكن أن تعود الأمة لتساق مرة أخرى بالحديد والنار؟ هذه التساؤلاتُ الماثلة، بل الصارخة في واقع العالم الإسلامي اليوم، يجب أن تنبه الغافلين الذين غرقوا في نشوةِ النصرِ على طاغيةِ تونس وفرعونِ مصر وسفاحِ ليبيا، أن استفيقوا فقد غرقتم كثيراً في سكرةِ النصر في الجولة الأولى، فإذا بكم تسقطون صرعى في الجولة الثانية!
وإذا كانت الجولةُ الأولى قد احتاجت جرعةكبيرة من الجرأة والشجاعة، لإنتاج ذلك المشهدَ البطولي الذي رأيناه في 25 يناير، فإنَّ ما بعد الجولة الثانية التي سقطنا فيها، يحتاج إلى مراجعة للنفس، وإنعامِ الفكر وعمقِ النظر وسعةِ الوعي والعمل الدئوب، فقد تبين للكثيرين أن التغييرَ الحقيقي لا يحصلُ بدحرجةِ الرؤوسِ الكبيرةِ وحسب، بل يبدأ بالفكرِ ويستمر بالفكرِ والعملِ، ويُحصَدُ بوصولِ برنامج سياسي حقيقي إلى سدةِ الحكم، لا بمجرد رفع شعارات واستنساخ أنظمة غربية لا تعبر عن عقيدة الأمة وحضارتها، أو الإبقاء على ما هو قائم مع إضافة بعض المساحيق له.
يعمل هذا البرنامج السياسي الحقيقي على إعادةِ صياغةِ المجتمعِ والدولةِ صياغة جديدة، تُنتِجُ لنا حياة جديدة بطريقةِ عيش جديدة، جديدةٍ ثقافةً وحكماً واقتصاداً واجتماعا وتعليما وقضاء وإعلاما وسياسة خارجية، تقطعُ كلَ صلةٍ بالحضارة الغربية التي اكتوى العالم بلهيبها واحترقَ بنارها وحروبها، واختنق بدخانها الأسود، وتعفّن بنتنها وسُحق باقتصادها الغاشم وتاه بضلالها، إنه خيار واحد لا غير، الإسلامُ من حيثُ هو مبدأٌ، عقيدة وشريعة، فكرة وطريقة، ومزج بين الروح والمادة، حضارة تؤسسُ لمدنية متألقة زاهرة على أساس روحي عميق راسخ.
ولذا تعين علينا التأكيد على حقائقَ ثلاث:
1) حقيقة أن الإسلامَ قد جاء ليبقى هدايةً للناس أجمعين إلى آخر الدهر. فليس له بديل ولا ناسخ قط. فلا وحيَ بعدَ القرآن، ولا نبي بعد خاتم النبيين صلى الله عليه.
2) حقيقة أن محاولات التنفير من الإسلام أو إطفاء نوره هي محض وهم. فلقد تنزَّل على نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة 32]، فالإسلام منتصر مهما حاول الكفار وأعوانهم صرفنا عنه.
3) حقيقة أنّ الواقعَ التاريخي قد صدَّق الحقيقتين الآنفتين: حقيقة ألا وحي بعدَ القرآن ولا نبي بعدَ خاتم النبيين.. وحقيقة أن محاولاتِ إطفاء نور الإسلام محاولاتٌ يائسة، مهما حاولت أن تأخذ صوراً شتى: فكرية كانت، أم ثقافية للتشكيك في الإسلام، أو عسكرية لاجتثاثِ أمة الإسلام من الأرض… إلى غير ذلك من صور المعركة وأشكالها وأساليبها.
إنَّ من أعمقِ وأقوى أسبابِ وصولِ الإسلاميين إلى الحكم في أكثرِ من بلدٍ عربي، أنَّ المسلمين يحبون إسلامهم، ويستجيبون لكل داعٍ له، بغضِ النظر عن أهدافِ الداعي الحقيقية ووعيه على الإسلام. وهذا كان يحتم على الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة أن يدركوا أن معركتهم لم تنتهِ، بل إنها قد بدأت لتضعهم في اختبار حقيقي يظهر للناس مدى قدرتهم على سياسة ورعاية شئون الناس، ويضيف عليهم مزيدا من المسؤوليةِ في الجِد والصدق في الأخذ بالإسلام، والحرص عليه، ولن يعفيهم حديثهم عن الإسلام باعتباره "مصدر إلهام" أو"مصدرا رئيسًا" فحسب، أو قولهم أن الحرية يجب أن تتجذر في المجتمع قبل الحديث عن تطبيق الإسلام، أو توفير العيش الرغيد والنهوض بالاقتصاد قبل تطبيق الإسلام، ذلك أن مثلَ هذه الأطروحات ما هي إلا تلاعب بأحكام الله، والتفاف عليها وتملص من وجوب تطبيقها، وهذا حمل المسلمين المخلصين على أن ينفضوا من حول هؤلاء "الإسلاميين"، لأنهم إنما صوتوا لهم في الانتخابات كي يحققوا أمانيهم بتطبيقِ شريعةِ الله عز وجل. فهي وحدها التي ستوفر لهم الحرية بمعناها الحقيقي بألا يكونوا عبيدا سوى لله، وهي وحدها التي ستوفر لهم وتؤمن لهم العيش الرغيد، وبها وحدها التي ستحقق لهم النهوض.
إنَّ تجربةَ "الإسلاميين المعتدلين" في الحكم قد فشلت بشكل واضح لا يمكن إنكاره، ليس لأنهم حكموا بالإسلام بل لأنهم لم يحكموا به! ولا يَظُنَّنَّ ظانّ أن هذا الطريق المعوج الذي ساروا فيه هو الحكمُ النهائي على مسيرةِ الإسلام. بل هي آية أخرى من آيات الله أن الذي يحيد عن طريقه المستقيم وعن الانصياع لأحكامه – بحسن نية أو بسوئها – لن يفلح ولن ينصره الله، بل سيقع في الخزي والمعيشة الضنك، وأن الله لن ينصر إلا من التزم الطريقة الشرعية في التغيير، الطريقة التي بينها لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وسار عليها، ولم يحد عنها قيد شعرة! فالإسلام هو الدينُ الحق والرسالة الخالدة، قد وجد قبلهم وسيستمر من بعدهم يقيناً، وكل تجربة فاشلة نتيجة معصية وحيد عن هذا الحق يبوءُ بها أصحابُها ولا تُحسبُ على الإسلام: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
لاشك أنَّ الثورةَ المباركةَ التي أطاحت بمبارك وطغمته الفاسدة، كانت بشيرَ خيرٍ لهذه الأمة، ذلك أنها كسرت حاجزَ الخوفِ الذي كان يقيِّدُ الأمةَ لعقودٍ طويلةٍ ويمنعها من العملِ الجاد للتغيير. ولذا فإننا نقولُ أنَّ هذه الحركة الانقلابية التي قام بها الفريق أول عبد الفتاح السيسي وأعوانه، ستكون في النهاية وبالا عليهم وعلى راعيتهم أمريكا التي هي سبب كل بلاء تعاني منه الأمة، وما يحدث الآن من حراك مجتمعي سيكون مقدمة للتغيير الحقيقي الذي ننشده، وإنه مهما حاولت أمريكا وغيرها من دولِ الكفر ثنيَ الأمةِ عن السيرِ في طريقِ التغيير إلى آخره، فإنَّ الأمةَ اليومَ لن يوقفَ حركتَها القويةَ تلك، أيُ قوةٍ مهما كانت، وستفشلُ خطط أمريكا التي تصل الليل بالنهار لمنع الأمةِ من زلزلة عرشها في بلادنا. وسيأتي قريبا اليوم الذي نخرج فيه من القبضة الأمريكية، أليس الصبح بقريب؟!
الزمنُ مفعمٌ بكلِ الاحتمالاتِ المفتوحة، وإنَّ أعظمَ الاحتمالات، بل هو عين اليقين، عند العدو قبل الصديق، هو عود الإسلام من جديد للحكم... ودولة الخلافة الإسلامية القادمة بإذن الله هي التي ستعيد للأمة مجدها ومكانتها اللائقة بها التي اختارها لها رب العالمين: "خير أمة أخرجت للناس".