الجيش والسياسة

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

من الكتب التي تركت في نفسي شعورا غير مسبوق بالقهر والحزن كتاب روج له اليهود الغزاة بعد انتصارهم الكاسح على الجيش المصري في5يونية 1967م . الكتاب كان متداولا في بيروت بسعر رخيص ويتم تهريبه إلى البلاد العربية بسهولة ، وتعرض له الإذاعات الأجنبية الناطقة بالعربية كثيرا. وقد رأيت نسخة منه في حينه عن طريق الإعارة ، ولكني بعد قراءته بكيت كما لم أبك من قبل . أعلم أن الكتاب فيه قدر كبير من الخيال ولكن  الحقائق الراسخة لايمكن لأحد أن ينكرها . قبل بزوغ فجر الخامس من حزيران عام 1967 م، كانت أسراب الطائرات " اليهودية" تنطلق محاذية لسطح البحر، صوب القواعد الجوية العسكرية المصرية، لتنجز مهمة تحطيم الطيران المصري وهو رابض بلا حراك، وحسم المعركة مع العرب, وإلحاق الهزيمة بهم قبل أن تبدأ المعركة وفقاً لخطة محكمة رسمت خطوطها من سنوات . وعندما رجعت الطائرات اليهودية سالمة رقص قائد الطيران اليهودي موردخاي هود على مكتبه ، فقد تحقق له حلم لم يصدق أن يتحقق بنسبة خمسين في المائة ، ولكنه تحقق بنسبة 100% . لقد تم تدمير جميع طائرات المصرية على الأرض باستثناء سرب من الطائرات هرب به الفريق مدكور أبوالعز إلى  السودان بعد أن استشعر الهزيمة الساحقة . وفي الوقت الذي كان يرقص فيه موردخاي هود على مكتبه كان قادة الطيران المصري يفركون أجفانهم بعد أن أيقظتهم القنابل والصواريخ التي أطلقتها الطائرات اليهودية ، عقب ليلة صاخبة من الرقص والغناء والنوم في أحضان الراقصات والساقطات وبنات الهوى ؛ شارك فيها مؤلف كتاب  " وتحطمت الطائرات عند الفجر " باروخ نادل رجل المخابرات اليهودي الذي اخترق الجيش المصري ومخابراته آنئذ.

الجيش المهزوم المحطم وجد من يدافع عنه وعن قائده الأعلى المهزوم دائما جمال عبد الناصر . كان من أبرزهم محمد حسنين هيكل وأحمد سعيد ، وكلاهما يمثل مدرسة في تزييف الحقائق وتضليل الأمة ونفاق الحكام الطغاة . أذكر أن هيكل الذي سمى الهزيمة الساحقة النكراء التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ المصري بالنكسة ، طالب المصريين ألا يعيشوا فيماجرى ، وطالبهم بمغادرة الجريمة والبحث عن إزالة آثار العدوان التي لم تزل حتى الآن !

كان أهم ماركزت عليه أبواق الكذب والتضليل يومئذ هو أن اليهود لم يستطيعوا أن يسقطوا الأنظمة التقدمية التي تقود البلاد العربية !أي إن أبواق التبرير استهانت بتدمير الجيش المصري وسحققه وقتل الآلاف من جنوده وضباطه في قلب الصحراءالملتهبة .

الجريمة العظمى التي ارتكبها القائد الأعلى والقائد العام والقادة الميدانيون في الجيش المصري ،لم يحاسبوا عليها .قدموا بعض القادة الذين حكم عليهم بأحكام هزيلة دفعت الشعب الى القيام بالتظاهر مما أجبر القائد الأعلى المهزوم دائما على إعادة المحاكمات .

 لقد كان هناك فساد عظيم في النظام والجيش . النظام ديكتاتوري مستبد يحكم الشعب بالحديد والنار وزوار الفجر المجرمين ، والجيش فيه فساد عظيم أيضا ، فقد تفرغ قادته للرفاهية والاستمتاع بالحفلات الفنية والخاصة ، وبعدهم عدّد زوجاته بالاقتران بالفنانات الجميلات سرا أو علنا ، وبعضهم تفرغ لتنمية ثرواته الحرام بما تم نهبه من من القصور الملكية أو عمارات الحراسة أو الشركات المؤممة ، وبعضهم تفرغ للسياسة والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي وحروب الرجعية والتقدمية والاقطاع والعدالة الاجتماعية ، وبعضهم راح يمارس نفوذه في مؤسسات الدولة مثل الصحافة والإعلام والخارجية والداخلية وغيرها ، وبعضهم راح يقود الأهلى أو الزمالك اوالإسماعيلي أو الترماي أو الأوليمبي أو غيرها من فرق الكرة بدلا من قيادةالكتائب والألوية والتدريب الشاق لمواجهة العدوالمتربص. وشهد جيش المحروسة خيانات وسفاهات وانحرافات تجاوزت كل الحدود حتى كانت الهزيمة الكاسحة المصمية التي ألحقت عارا بكل مصري لم يغسل إلا في العاشر من رمضان بفضل الله ثم بتضحيات الشهداء والمصابين الذين بذلوا دماءهم غالية ، ثم قيادة نزيهة عفة شريفة مثلها صاحب المآذن العالية " سعد الدين الشاذلي " - رحمه الله .

لقد عشت مجندا مع مئات الألوف من أبناء جيلى مرحلة ما بعد 67 حتى العبور التاريخي في رمضان 93هـ ، وعرفت الفارق بين جيشين : مهزوم لا يملك من أمر نفسه شيئا ، الجنود وضباط الصف يمثلون درجة دنيا ، والضباط يمثلون طبقة عليا ، والعلاقة بين الطرفين علاقة عبيد وسادة ، ومنتصر تساوى فيه الضباط والجنود ، انشغلوا جميعا بواجبهم العسكري وابتعدوا عن مستنقع السياسة ، وترفعوا عن الانشغال بغير الحرفة والمهنية من أجل كسر إرادة الغزاة اليهود .

كان المأمول أن يستمر تطور الأداء العسكري الباهر، ولكن جاءت كامب ديفيد ، وما تبعها من تحولات ، ونظام مستبد فاشي ينتسب إلى الجيش بصلة قوية ليضرب مؤسسات الدولة جميعا في مقتل وليؤثر على العقيدة القتالية ، وينشغل العسكر بالاستثمار في ظل قيادات هرمة جعلت منه مؤسسة فوق المؤسسات وكيانا فوق الدستور والقانون لا يخضع لرقابة ولا يقبل بمساءلة .

قامت ثورة يناير لتنهي الحكم العسكري الذي استمر ستة عقود من القهر والهزائم والعار والتبعية للغرب والتحول إلى كنز استراتيجي للعدو ، فضلا عن مصادرة الحريات ومطاردة الإسلام وإتاحة المجال لنهب البلاد وتسمين اللصوص الكبار الذين يسرقون بالقانون وازدهار الفساد وتجذره إلى الأعماق .. ولكن القيادات العسكرية حولت حلم الثورة الجميل إلى كابوس ، سالت فيه دماء حقيقية لمصريين بيد مصريين في الميادين والشوارع وملاعب الكرة وعلى الأسلاك الشائكة لوزارة الدفاع وأمام نادي الحرس الجمهوري ومنصة النصب التذكاري وداخل المساجد وعلى مداخلها .وتفننت هذه القيادات في اللعب بالثورة التي جاءت بلا قيادة وراحت تماطل في تسليم الحكم الى القيادات المدنية لأنها لم تعتزم أبدا أن يخرج الحكم من بين أيدي العسكر.

وعندما تولى الدكتور محمد مرسي رئاسة الجمهورية منتخبا من جانب الشعب ؛ فقد عاملوه بوصفه مجرد بيدق يحركونه كيفما يشاءون ، وقسموا شاشة التلفزيون الى نصفين عند صلاة الجمعة ، في الأول الرئيس وفي الآخر المشير ! ووقعت أحداث رفح المريبة التي استطاع بعدها الرئيس أن يحيل المشير إلى التقاعد ويعين مدير المخابرات وزيرا للدفاع ، وظن الناس أن حكم العسكر انتهى للآبد ، ولكن الفجيعة أنهم كانوا يرتبون لإقصائه وإنهاء الثورة وإستعادة الحكم المطلق وقهر الشعب إلى الأبد وضربه بالرصاص الحي وهو يصلي!

عاد الجيش إلى الحكم وانشغل بالسياسة واختطف الرئيس المنتخب واعتقل مئات القادة المدنيين والنواب المنتخبين والإعلاميين الشرفاء ، وصار المسئول عن الشئون المعنوية هو الرقيب على الصحف والقنوات والاذاعات يوجهها وفق ما يريد العسكر ، وفرضت البيادة أوامرها على الوزراء والقضاء ومرافق الدولة كافة ، وأصبح الاتصال العلني يوميا بوزير الدفاع الأميركي أمرا واقعا ، أما الاتصال السري  بالعدو اليهودي فأمره متروك لأجهزة الإعلام اليهودية تعلن عنه وفق ما تريد !

هل نحن مقبلون على يونية آخر أكثر بشاعة ؟ وهل سنشهد مذبحة دموية جديدة للشعب المصري في رابعة العدوية والنهضة تسبق يونية المتوقع ؟ وهل ستتحول العقيدة القتالية للجندي المصرية ليكون شقيقه المصري هو عدوه بدلا من المحتل اليهودي ؟