يندثر كلّ شيء وتبقى أنت

مادونا عسكر

عندما تعود الأرض إلى فراغها الأوّل، حين كانت خاوية خالية وظلال النّور وهو يستحضر حلوله الأوّل، وينتظر إشارة كي ينبلج ويخترق أديم الظّلمة، ويغمر الكون بالضّياء.  ويستعيد الكون بهاءه الأوّل، ويحتجب نيّرا اللّيل والنّهار في حضن الأزل، فيسكن اتّقادهما ويخمد فيضهما، وتحار النّجوم في ظلمتها فتسقط على أكفّ الفراغ وتتبخّر في أعماقه.

عندما تخلد الطّيور إلى حضن أيلول الأخير، ويستحضر العشب آخر ذكريات نيسان الدّافئة ويمنح نضارته لعزلة الخريف العتيد.  وتنظر الجبال إلى عمق سفوحها وتبكي علياءها الزّائلة وتذوب في كيان السّهول السّابحة في تيه الوجود.  

عندما تختبئ اليابسة في كنف الاندثار وتتشتّت البحار وتتفرّق القطرات في مساحات مجهولة مبهمة، تترنّح باحثة عن سبيل جديدة. وتتفتّت وريقات الأشجار مودّعة أمّاتها العارية والرّاحلة إلى عدمها، وتميل الأزهار مع آخر نسمة هواء، تعانق صفوها وتهيم في الفضاء المغادر نحو الانعتاق الأخير.

ويلتفت الوجود إلى نهاية الطّريق ويلقى ذراعي أرض جديدة متلهّفتين لاحتضانه في غمرة الدّهر الآتي، فإذا به يرى الصّوت يتأرجح على نسيمات ألحان جديدة، ويسمع الألوان تختلط وتتناسق لتحوك نور سماء جديدة، فيدرك أنّ الأبد حضر وملامح المكان تبدّلت وأسارير الزّمان تحوّلت وانعتقت من قيود ما برحت تحدّد حرّيّة الحياة.

وألتفت أنا، وإذا بالكون يضمحلّ ويفنى، وأنت هناك واقف على سحاب أمهق، تمدّ خيوط قلبك النّابض أبداً، وتحملني لأعبر إلى السّماء المعدّة لي.  وتقطف لي دمعة من مقلتيك الطّاهرتين وتمنحني سرّ الحياة الجديدة، حتّى إذا ما أدركت السّرّ انشقّ الحجاب وظهر بهاؤك الأكمل، أصغيت لعطرك المنساب من أكفّ السّماء وتنسّمت سحرك العابق في قلبي.

وكان فجر جديد لا يعرف غروباً، وأشرق صباح جديد لا يفقه معنى المساء، وأنا وأنت في حضرة الحبّ ننشد بخوراً يرق له فؤاد السّماء، فيفيض عذوبة وجد جديد.  ويقف الحب عند أعتاب الأزل، يحوّل اندثار الأرض إلى حياة سرمديّة أبديّة، ويرنّم صلاة الخلق الجديد.

في البدء الأزلي، قال الحبّ: ليكن النور، فعاينت وجهك البهيّ، وكان صباح.

ثمّ قال: ليكن العطر، فملأت أنفاسك الأرض الجديدة، وكان صباح.

ثمّ قال: لتكن العذوبة، فسمع همسك حتّى أقاصي اللّاحدود، وكان صباح.

ثمّ قال: ليكن الحنان، فانسكب من قلبك أنهار ماء عذب، وكان صباح.

ثمّ قال: لتنبت براعم الحبّ، فولدني منك ولك، وكان صباح.

وفي استراحة الكمال، نظر الحبّ إلى قلبنا وقال: هذا حسن جدّاً. وكان أزل يستقي الحياة من كؤوس الأبد.

البدء أنت، وأنت الأزل، أنت الأوّل والآخر والبقاء عند ارتعاد الرّحيل والقرب عند انتفاء البعد. كلّ شيء يزول وأنت تبقى، وكلّه يبلى كالموت وينقضي كالسّراب. وأنت أنت فأيامك لا تغيب وسنوك لا تفنى، ولياليك ورود نورانيّة تنسحق عند أقدامها الظّلمة، وعصير كرمتك ماء حياة لارتواء أبديّ.

يرحل كلّ شيء، وتبقى أنت، خرير السّواقي وحرير الأنهار. يندثر كلّ شيء وتبقى أنت حفيف الأشجار وألحان الطّيور. يموت كلّ شيء وتبقى أنت صدى الأودية تناجي قمم الجبال. يفنى كلّ شيء، ويتوقّف النّبض، وتصمت الحياة، وتبقى أنت حاضراً في نبض قلبي، وأبقى أنا حيّة في نعيم قلبك.