ياسمين آذار المخضب بالدم (الحلقة 45)
الطليعة تعلن النفير العام في مدينة حماة
والسلطة تفاجئ القيادة الميدانية
محمد فاروق الإمام
عرفت الأجهزة الأمنية السورية بقرار عمر جواد بالنفير، ففاجأته بسحب جميع الوحدات العسكرية يوم 31 كانون الثاني من المدينة إلى خارجها بشكل تام، فأخلت مدينة حماة لعمر جواد الذي لم يدرك أن هذا الانسحاب كان جزءاً مما يسمى في حرب العصابات بـ(شبكة العنكبوت).
ويتلخص هذا المفهوم بتشكيل أطواق متتالية، ثم الاصطدام عبر مفارز بقواعد العصابيين و(استفزازهم) للخروج من مكامنهم إلى حرب مكشوفة، يكونون فيها مطوقين تماما، ويبدو أن هذا ما حدث.
القيادة الميدانية تدعو أهل حماة للجهاد
داهمت الأجهزة الأمنية القاعدة القيادية المركزية وأرغمتها على المجابهة، مما أدى، وفق الرواية الأمنية السورية شبه الرسمية، إلى تسبيق عمر جواد لساعة الصفر بيومين.
أمام مهاجمة الأجهزة الأمنية لقاعدة القيادة دعا عمر جواد أهل حماة في ظهر يوم 2 شباط عام 1982م من خلال مكبرات الصوت في المساجد إلى الجهاد، وأوهم الناس بأن كافة المدن السورية سقطت بيد (المجاهدين) ما عدا حماة.
وهكذا وقعت المدينة في الفخ الذي نصبته أجهزة الأمن، فتقاطر الشباب على المراكز التي حددها عمر جواد لاستلام السلاح الذي وزعه بسخاء لكثرته. وتوهمت القيادة الميدانية أنها ربحت المعركة، وأن النصر بات قاب قوسين أو أدنى، بعد أن خلت لها مدينة حماة وسيطرت عليها بشكل تام من 2 شباط إلى 12 منه عام 1982م. وكانت المجابهة الدامية بين (كليشنكوف) عمر جواد و(دبابة وراجمة ومدفع وطائرات السلطة) ولتُذبح المدينة من الوريد إلى الوريد بحماقة القيادة الميدانية وغفلتها، وبعنجهية صقور السلطة بعيداً عن العقل والنظر إلى التداعيات والعواقب.
تدمير حماة واستباحتها من قبل قوات النظام
بعد حصار السلطة لمدينة حماة، بهدف إخراج المقاتلين من مخابئهم بعد أن علمت بقوتهم هناك، عمدت السلطة للاعتقالات والتعذيب الجماعي للإمساك بالخيوط التي يمكن أن توصلها للتنظيم العسكري، وفعلاً توصلت بعد شهرين لمعرفة معظم القواعد واعتقال عدد من المقاتلين غير المكشوفين، فباشرت بمداهمة هذه القواعد ونسفها على رؤوس المدنيين لمجرد احتمال وجود مسلحين، وقامت بأعمال عشوائية من التمشيط دفعت معها المقاتلين وقيادتهم لقرارهم الاضطراري بالصدام، لذلك قرروا المجابهة حتى لا يكون قتلهم مجاناً، وحتى يتركوا مجالاً أمام الجيش للانشقاق إن كان هناك شيء من هذا سيحصل. وهكذا قررت قيادة المقاتلين وعلى رأسها (عمر جواد) الصدام العلني في 25 كانون الثاني عام 1982م. ثم جاء نزول عدنان عقلة غير المتوقع، وما كان من تدارس الأمر بينهما قرر فيه عدنان الخروج لاستنفار شبابه للمشاركة في الصدام بعدما وعده العراقيون بالدعم، فوعده أبو بكر بتأخير الانفجار ما أمكن لفتح المجال أمام إخوة الخارج للمشاركة في هذا الصدام.
في اليوم الثاني من شباط عام 1982م قامت مجموعة من الوحدات الخاصة التابعة للعقيد علي حيدر بالتوجه لمداهمة قاعدة أبي بكر القيادية، وعلم بذلك أبو بكر عبر التصنت على أجهزة الإرسال، فنصب الكمائن للمجموعة المداهمة فأبادها عن بكرة أبيها، وابتدأ المقاتلون خطة سيطرتهم على المدينة، ومع الصباح توجه أبو بكر إلى المسجد وأعلن عبر مكبرات الصوت الانتفاضة المسلحة، ووزع كميات كبيرة من الأسلحة على الأهالي، وقام المقاتلون بالسيطرة على المدينة، ودارت معارك ضارية وعنيفة بين المقاتلين والوحدات الخاصة والحزبيين، تم على إثرها تنظيف المدينة من كل عناصر السلطة والحزب، وتمت للمقاتلين السيطرة الكاملة عليها. في حين أغلق الجيش بدباباته ومجنزراته وراجمات صواريخه المنافذ المؤدية إلى المدينة، ومنع الخروج أو الدخول منها وإليها، وفرض حصاراً شديداً حولها وعلى تخومها.
قامت السلطة بعد ذلك بمحاولات إنزال جوي للوحدات الخاصة ولسرايا الدفاع التي كان يقودها العقيد رفعت الأسد شقيق الرئيس حافظ الأسد فوق بعض الأماكن من المدينة، إلا أن المقاتلين تمكنوا من إبادة تلك المجموعات، فيما أخفقت كل محاولات الجيش المحاصر للمدينة من اقتحامها بالمدرعات في عدد من المحاور، التي كان المقاتلون يتصيدونها ويعطبونها ويمنعونها من التقدم، حيث كان المقاتلون لها بالمرصاد، وبقي المقاتلون يسيطرون على المدينة دون وجود لأي نوع من أجهزة السلطة فيها.
ثم قرر المقاتلون بعد تضييق الخناق عليهم الانسحاب إلى الأحياء القديمة حيث يسهل الدفاع عنها لصعوبة تحرك الآليات في أزقتها الضيقة. وحافظ المقاتلون على سيطرتهم على عدد كبير من أحياء حماة رغم شح ما تبقى معهم من ذخائر وخاصة المضادة للدروع.. واستمر قصف المدينة العشوائي من قبل السلطة بالمدفعية والهاونات والدبابات وراجمات الصواريخ نحو عشرة أيام دون توقف ليلاً ونهاراً، قتل خلالها القائد (أبو بكر – عمر جواد) القائد الميداني للطليعة بقذيفة مدفع هاون في اليوم الثامن للمعارك، وتولى القيادة نائبه (أبو عارف – مسعف البارودي) وبقي يقاوم حتى أصيب هو الآخر وقتل.
اقتصر القتال في الأيام الأخيرة من المعارك على الأحياء المتفرقة بالمدينة، وألقى معظم المدنيين الذين بقوا على قيد الحياة أسلحتهم كي لا يثبت عليهم تهمة المقاومة، وهكذا انتهى كل شكل من أشكال المقاومة بعد حوالي ثمانية عشر يوماً من انفجار الأحداث، لم تتمكن السلطة بكل ما لديها من قوة من دخول المناطق التي كان المقاتلون ومناصريهم يسيطرون عليها في تلك الأيام الملتهبة.
ولم تدخل قوات الجيش إلى المدينة إلا بعد أن سوت معظم أحياءها بالأرض، ولم ينجو من القصف دور العبادة من مساجد وكنائس، وقيل إن نصف المدينة قد أتي عليها تدميراً وخراباً، وما تبقى لم يكن سالماً تماماً، وقد تكبد المدنيون خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، حيث بلغ عدد القتلى نحو خمس وثلاثين ألفاً والآلاف من الجرحى.
وبعد أن تبين للعقيد رفعت الأسد خلو المدينة من المقاتلين والمقاومين أمر سراياه باستباحتها لثلاثة أيام لم يتركوا فيها شيء يمكن حمله أو سلبه ونهبه، في حين قامت بعض الفرق الأخرى باعتقال كل من وصلت إليه يدها من رجال وشباب وحتى النساء والشيوخ والأطفال. وجرت عمليات قتل لأسر بأكملها، وقدر عدد من تمكن من الفرار من المدينة بنحو ثلاثمائة ألف هاموا على وجوههم في المناطق السورية أو خارج البلاد.
يتبع