الديموقراطية والإسلام
د. نبيل الطرابيشي
يتحدث الكثيرون في هذه الأيام عن العلاقة بين الديموقراطية و الإسلام و لعل غالب ما يتداول في الأدبيات الإسلامية هو الرفض مباشرة لأن الديموقراطية في نظرهم نظام غربي دخيل غير متوافق مع قيم الإسلام بل يعتبرها الكثير أنها رفض لقيم الإسلام و كفر به.
هناك بطبيعة الحال محاولات لتحليل مفهوم الديموقراطية و فهم علاقتها بالاسلام و ممن كتبوا في هذا الموضوع الدكتور غازي التوبة حيث قسم الديموقراطية إلى قسمين: المبادىء الفكرية و الآليات العملية و في تحليله يبين أن الآليات العملية مثل انتخاب الحاكم و محاسبته و حرية الرأي و البرلمان لها أساس في تراثنا السياسي فيمكن الإستفادة منها أما الأسس النظرية فهي كما يراها فهي تتعارض مع نصوص قطعية و قد أورد في هذا المجال مبدأ حرية الفرد المطلقة و مبدأ المادية في الكون و مبدأ نسبية الحقيقة و مبدأ استهداف اللذه و المصلحة. و بطبيعة الحال فإن الطريقة التي عرض فيها هذه المبادئ يقتضي رفضها ليس من الدين فحسب بل من أي عقل سليم إذ كيف تستقيم الحياة في أي مجتمع دون قيود و ضوابط على حرية الفرد ؟ ففي الولايات المتحدة التي ترقى فيها الديموقراطية إلى ما يشبه الدين هناك الكثير من الضوابط و القوانين التي تنظم علاقة الفرد بالمجتمع و لم أسمع أن هناك مكانا يستطيع فيه الإنسان فعل أي شئ يريد و لكن هناك محاولات مستمرة لإعطاء الفرد أكبر قدر من الحرية بحيث لا تضر بالمجتمع و هناك أمثلة كثيرة على ذلك. أما بقية الأمور التي ذكرها الكاتب فهي اختيار شخصي و ليس سمة أساسية و لكن الكاتب لم يتطرق لمسألة فصل الدين عن الدولة و مصدر السلطات وهي المسآئل التي تعتبر اشكالية للكثيرين.
في الواقع فإن الدولة هي ألة و نظام لخدمة المواطنين في المجتمع لذلك ففي مجتمع متنوع متعدد يتبنى حرية الإعتقاد “لا إكراه في الدين” يجب أن تكون الدولة محايدة و إلا دخلت في عملية الإكراه وفي الممارسة العملية فإن المسلمين هم أحد المستفيدين من هذا النظام في أوربا أو أمريكا حيث أن القانون و الدولة لا تجبرهم على التخلي عن اعتقادهم بل لهم الحرية في ممارسة شعائر دينهم و لهم الحق كما لغيرهم في الإستفادة من خدمات الدولة و المشاركة في العملية السياسية.
أما كون الشعب مصدر السلطات في النظام الديموقراطي فذلك مصدر قلق وتخوف شديدين للبعض و كأن المسلمين إذا أعطوا الفرصة فسيسنون القوانين التي ما أنزل الله بها من سلطان و ستلغى الأحكام الإسلامية المتعارف عليها و تستبدل بقوانين تتبع هوى “الرعاع” و قد نسوا أن المسلمين محصنون ضد هذا الأمر “لا تجتمع أمتي على ضلالة” و أن ذلك النوع من التفكير يدل على عدم ثقة بالمسلمين و عدم تصديق بالحديث. بطبيعة الحال فإن هذا النظام هو جهد و اجتهاد بشري للبحث عن الأفضل و هو ليس نظاما كاملا مكملا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لامن خلفه و لكن الله تعالى أعطانا العلم الذي يمكننا من تحري الخيارات و انتقاء الأفضل و التصحيح عند حدوث الخطأ و التعلم من الدروس و عندها ينمو الإنسان و يرتقي و يقدر حكمة الله و إبداعه في كونه “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” و تصبح الحياة رحلة في الإستكشاف على طريق الحقيقة و يصبح العلم دليل الحق و مقياسه “و يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق و يهدي إلى صراط العزيز الحميد” عندها يصبح التدين وجها آخرللعلم: مسيرة دائمة غير منقطعة باتجاه الحقيقة “اهدنا الصراط المستقيم” حيث لا يمكن الوصول في هذه الدنيا للحقيقة المطلقة الكاملة و إنما هو جهاد للسير على طريقها المستقيم من غير عوج أو انحراف. أما كون النظام الديموقراطي قد نشأ في الغرب لا يعني بطلانه و عدم صلاحه فالقرآن و هو كتاب عربي قد استعمل كلمات غير عربية حتى أن كلمة صراط التي يرددها المسلم مرات و مرات يوميا تأتي من أصل يوناني كما ورد في قاموس المعاني أن كلمة صراط باليونانية تعني الطريق.
إن تدهور الدول الاسلامية و تراكم التخلف الذي صاحبها قد أوصلنا لدرجة من الجهل بقيمنا ما يجعل مقاتلا في هذا الزمان يقول بأن من يقاتل من أجل حرية الناس فهو إلى جهنم ! و على هذا فسيعتبر أن من قال “جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد و من جور الأديان إلى عدل الإسلام و من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا و الآخرة ” سينتهي الأمر به إلى جهنم إذ أن ذلك الصحابي الجليل يريد تحرير الناس ليكون لديهم حرية الإختيار و يريد القضاء على الظلم و يريد فتح الآفاق أمام الناس و هو مستعد لبذل دمه لتحقيق ذلك ! رضي الله عن ربعي بن عامر لو كان في هذا الزمان لاتهم بدينه و ربما تم إعدامه ميدانيا.
إنني أكتب هذا الكلام و الأسى يعتصر قلبي عندما أرى مجموعات تريد مصادرة حرية الناس و فرض رؤيتها عليهم بقوة السلاح باسم الدين و هو بالضبط ما جاء الإسلام ليخلص الناس منه. و شخصيا فإنني مع حقهم في تبني وجهة النظر التي يرونها مناسبة و من حقهم دعوة الناس لها و لكن ليس من حق أحد فرض رؤيته على الآخرين و قوة السلاح يجب أن تستخدم فقط لضمان حرية و أمن المواطنين و تحقيق فائدتهم.
إننا بأمس الحاجة إلى إعادة تشكيل لطريقة تفكيرنا التي هي مسؤولة عن هذا التخلف الذي نعاني منه. بحاجة إلى تقدير العلم و استخدامه بدل طريقة التفكير المنغلقة و الآبائية و الاسطورية التي أصر الاسلام على التخلص منها حيث رفض منطق الكفار بطلب المعجزات و طالبهم بمحاكمة عقلية لما يدعوهم إليه و رفض حجتهم بأنهم إنما يتبعون آباءهم “بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مهتدون” ثم نرى أننا وبعد كل ذلك الوقت انتكسنا لعقلية ما قبل الإسلام و ابتعدنا عن التفكير العلمي “رغم كيلنا المديح للعلم ليل نهار” فلا تكاد ترى مجددا و إذا وجد فيتم اتهامه بالخروج عما هو مألوف و الابتداع في الدين … حتى ابداع الأئمة الأربعة العظام و بدلا من البناء عليه تم رفضه لصالح الرجوع للنص مباشرة بدعوى النقاء و الرجوع إلى الأصول ! و قد أدت هيمنة هذا التوجه الفكري لأن تستحوذ علينا حالة من الجمود الذهني في المسائل الدينية حيث أن مسائل بسيطة أصبحت مشكلات عويصة عصية على الحل ولم يقتصر الأمر على المسائل الدينية فحسب بل انسحب الجمود الذهني على جميع جوانب حياتنا فأصبحنا في مؤخرة الأمم لا نبدع و لا ننتج (إلا باستثناءات بسيطة) حتى أن البعض بدأ يشك أن هناك خللا في المورثات لولا أننا نبدع و ننتج في مجتمعات الغير. إن أمامنا فرصة لكي نتقدم و نكون نعمة كبيرة لبني البشر ونحقق رؤية الله في الإنسان عندما تساءلت الملائكة عن خلق الإنسان و أنه لن يأتي بخير “قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء” فكان جواب المولى عز وجل “إني أعلم ما لا تعلمون” و لكننا نحتاج لتغيير أنفسنا أولا حيث أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.