ماجلان يحقق حلم كولومبس

ذخائر الفكر الأنساني (24)

د. خالص جلبي

[email protected]

رست سفن الدون كريستوبال كولون الذي اشتهر بــ (كريستوف كولمبس ) في 12 اكتوبر عام 1492 م على الارض الجديدة ، ولكن اسم أمريكا جاء من اسم بحار ايطالي آخر ( هو أمريجو فيسبوتشي ) ومات كولمبس وهو مطمئن البال الى أنه وصل الى الهند ، وأخذ أهل أمريكا اسم الهنود ، واعتقد أنه لف الكرة الارضية من الغرب ، ولكن الذي حقق الحلم فعلاً ولأول مرة في تاريخ الجنس البشري كان ( فرديناند ماجلان )(FERDINAND MAGELLAN )(1) الذي قام برحلة استغرقت ثلاث سنوات مليئة بالاثارة والكشف الجغرافي والاختراق الحضاري والمشاركة في قلب الميزان الكوني لصالح الغرب . بدأت الرحلة من اشبيلية في أيلول سبتمبر عام 1519 م وانتهت عام 1522 م ، ولم يرجع فيها ماجلان ليرى زوجته وولده ، بل قتل في أرض نائية ، في حرب طائشة لاداعي لها ، مع سكان الجزر المسالمين . ولم يرجع من السفن الخمسة التي أقلعت سوى ( فكتوريا ) التي تطابق اسمها مع نتيجتها بيمن ملفت للنظر علامة على الظفر والنصر ، ولم يرجع من 250 بحاراً سوى 18 في حالة يرثى لها من الضعف والمرض والجوع على حافة الهلاك ، وكان أهم شخص في الرحلة هو أتفههم في البداية وأدعاهم للبطالة ، فالايطالي ( انتونيو بيجافيتا ) كان يدون أخبار الرحلة أولاً بأول بشكل دقيق مثير مليء بالتفصيلات يوماً بيوم ، وكان مايسحره الطبيعة والحيوانات أكثر من نزاعات الربابنة الاسبان مع ماجلان حول الزعامة ، هذا الرجل لحسن الحظ هو الذي خلَّد لنا أخبار الرحلة وعاش ليرويها ، وكانت أعظم مفاجأة في التوقيت فمع الوصول الى اسبانيا من جديد في دورة كاملة حول الكرة الأرضية تم انتزاع يوم من الزمن المتدفق الساري ؛ فسجلت اليوميات وصولاً مبكراً ب24 ساعة عن زمن اسبانيا المحلي ، وعرف أن الأرض أكبر أربع مرات مما كان متخيلاً ، وتم التخلص من مسلمات عقلية كبيرة ، فكما استطاع كوبرنيكوس قلب التصور الكوني والتخلص من نظرية بطليموس في علاقة الارض بالشمس وحركة الأرض ، فإن ماجلان استطاع هدم نظرية بطليموس من جديد عن بحر الظلمات واتصال أفريقيا بالقطب الجنوبي ، وأعظم شيء فعله الغرب هو أنه سار في الأرض فنظر ، فبقدر ماأكد القرآن على السير في الأرض والنظر واعتبار ( السياحة ) ضرب من العبادة ( العابدون الحامدون السائحون )( تائبات عابدات سائحات )(2) واعتمد البناء العلمي في التفكير ، والرجوع الى الواقع والتاريخ والطبيعة كمصادر للمعرفة ، بقدر ماانكفأ العالم الاسلامي على نفسه ، وترك البحث والسير في الأرض ، وخاف من التفكير ، وتمت مصادرة العقل واغتياله منذ القرون الأولى لتشكل العالم الاسلامي ، واعتمد الخط الأحادي في التفكير ، فوقع في التعصب والانغلاق وضيق الأفق ونام ، فلم يستيقظ الا على أحفاد ماجلان وريتشارد قلب الأسد يقرعون بابه ، هذه المرة ليس في صورة صليبيين متخلفين ، بل بإدارة جماعية وعقل جديد ، وهكذا فقد ولد العالم ولادة جديدة ، لم يشترك المسلمون في صناعته ، وتوقف الزمن في العالم الاسلامي ( وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه نشأة مستأنفة وعالم محدث )(3) انقلاب العالم الثلاثي وماتلاها من اختراقات معرفية

 مع مطلع القرن السادس عشر للميلاد حصلت ثلاث ثورات غيرت مجرى التاريخ في فهم الكون والانسان والأرض ، فأما الأولى فكانت في ( جغرافية الأرض ) وأحدثها ( فيرناندو ماجلان ) حيث كبرت الأرض دفعة واحدة أربع مرات ، وكانت الثانية في (جسم الانسان ) الذي كان يعتبر تشريجه حجراً محجوراً ، فأقدم على اختراق هذا التابو الذي كان قدسيةً في عين الاوربيين المشرح الايطالي ( فيساليوس ) والذي لولاه ماتقدم علم الطب ، وكانت الثورة الثالثة ( كونية ) عندما ظهر خطأ ( بطليموس ) للمرة الثانية في ترتيب الكون بعد خطأه في وصف الاطلنطي بأنه بحر الظلمات وأن السفن التي تصل خط الاستواء تدخل قِدْراً كونياً يغلي لايبقي ولايذر . فبرهن (كوبرنيكوس ) أن الأرض لاتعدو كوكب تافه يدور حول نجم عملاق في مجموعات شمسية لانهائية ، وأكمل ( جيوردانو برونو ) الثورة العقلية بتدشين مفهوم حرية الفكر والكون اللانهائي الذي ننتسب إليه . ولعل الثورة البيولوجية في فهم الانسان التي قادها ( فيساليوس ) أفضل من تممها هو ( دارون ) الذي فتح الطريق في علم الانثروبولوجيا ( علم الانسان ) فكما افتتح الطريق فيساليوس الى جسم الانسان بالخاصة ؛ فإن دارون فتح الطريق لمعرفة سر الحياة وأصل الانسان بشكل عام ، وهذا بدوره شق الطريق الى مجموعات جديدة من الفضاءات المعرفية ، فلمزيد من معرفة الانسان لابد من فهم ( كيف نطق ) فنشأ علم ( الالسنيات ) ولمعرفة كيف تحرك في الأرض نشأ علم الانثربولوجيا ( علم الاناسة ) وعلم ( الحفريات ) وعلم ( الجينات ) ومن مزج العلمين الأخيرين نشأ اليوم علم جديد هو علم ( حفريات الجينات ) وهكذا فإن كل علم يشق الطريق الى ثورة علمية جديدة ويكتشف فضاءا معرفيا جديدا ، فالانسان اليوم يُدرس من خلال بقايا العظام التي تركها جسده ، والكروموسومات الباقية في خلاياه ، من بقايا جسمه البالي حتى لوكانت عظاما وهي رميم ، وكذلك من تتبع علم اللغة وكيف تم اشتقاقها من بعض . وما يهمنا من هذه الثورات العلمية بصماتها وأثرها على الفكر والفلسفة بشكل عام ، فالفيزياء أدخلت مفهوم ( القانون ) في بناء الكون ، التي سماها القرآن ( السنة ) والحتمية على يد لابلاس ونيوتن ، ولكن فيزياء ( ميكانيكا الكم ) الحديثة التي طورها ( هايزنبرغ ) الألماني و( بور ) الدانماركي و( بول ديراك ) البريطاني في عام 1928 م لم تلغ فكرة القانون ، وإنما أنزلته وأعطته صورةً جديدة ، مهتزةً بعض الشيء من خلال إضافات اللاحتمية ( مبدأ اللايقين ) وقانون ( الاحتمالات ) . كذلك فإن الداروينية تركت بصماتها على الفكر الانساني من خلال ( علم الاجتماع ـ السسيولوجيا ) على الشكل الذي طوره المفكر البريطاني ( سبنسر ) وأما أحداث التاريخ فقادت الى فهم ظاهرة الحضارة ، كما أن فهم الكون قاد الى دفع المبدأ الانساني ( البرمجة المسبقة في الكون لوجود الانسان ) الى الظهور . فهناك حلقة جدلية في تطور العلوم وآثارها الفلسفية البعيدة من هذه العلوم التي تم تطويرها كأثر لرحلة ماجلان علم ( الاعراق ) الاثنوغرافيا ، الذي كان للمسلمين الدور المتقدم في وضع جذوره على ماذكر المؤرخ الأمريكي ديورانت عن قصة ( ليو الأفريقي ) الذي قضى عمره في وضع أسس هذا العلم ، ولم يكن في الحقيقة الا ( الوزان ) العالم الغرناطي الذي وقع في قبضة القراصنة في حملات تفريغ اسبانيا من المسلمين وإبادتهم .

 قصة المسلم ليو الأفريقي ـ نشوء الاثنوغرافيا ( علم الأعراق )

 جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت أن المسلم الغرناطي ( الحسن بن محمد الوزان ) هو الذي وضع البدايات الأولى لهذا العلم في عمل موسوعي يعتبر الأول من نوعه أخذ جهداً متواصلاً امتد ثلاثين عاماً يقول ديورانت ( كان الحسن بن محمد الوزان مسلماً من غرناطة وقد تنقل في أرجاء أفريقيا ووصل جنوباً الى السودان يحدوه ولع شديد بالاسفار كولع ابن بطوطة . وقد أسره القراصنة المسيحيون وبعثوا به الى روما هدية للبابا ليو العاشر الذي أعتقه ورتب له معاشاً بعد أن أُعجب بما حصَّله من علم وثقافة . واستجاب لهذا العطف باعتناقه المسيحية واتخاذ ليو اسماً له . ثم أنفق الثلاثين سنة التالية في تأليف كتابه هذا بالعربية أولاً ثم بالإيطالية . وقبل الفراغ من طبع الكتاب عاد الى تونس ،وهناك مات عام 1552 م على دين آبائه فيما يبدو )(4

حمى الكشف الجغرافي وروح المغامرة

ومضى الكشف الجغرافي المثير قدماً فارتاد ( سبستيان كابوت ) تحت الراية الاسبانية الارجنتين واورجواي وباراجواي ، واخترق ( دي سوتو ) فلوريدا وولايات الخليج حتى بلغ أوكلاهوما ، واكتشف ( بيدرو دي البارادو ) امبراطورية المكسيك ، واخترق ( فرانسيسكو دي كورونادو ) أريزونا حتى بلغ كانساس ، وبدأت مناجم بوتوزوي في بوليفيا تبعث بفضتها الى اسبانيا ، وكانت خريطة العالم ترسم سنة بعد سنة بالذهب والفضة والدم معاً في رحلة عبودية لاترحم . ويبقى السؤال عن تخلف الفرنسيين والانكليز عن اكتشاف القارة الكبرى التي تركها لهم الاسبان ، الذي يرجع الى فقرها النسبي بمعادن الذهب والفضة آنذاك ، بالاضافة الى وعورة غاباتها.

 مشروع ماجلان

 كل المشاريع تحتاج الى الحماس ، ويجب أن تكون مغموسة في الخطأ وفساد التصور في طرف منها ، وهذا الذي حصل مع صاحبنا ( ماجلان ) الذي ظن بوجود ( ثقبة بحرية ) بين المحيطين ( الاطلنطي والهادي ) بموجب خريطة تبين خطأها لاحقاً ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وليمكن للبرتغاليين في الأرض ، ليعلوا علوا كبيرا ، ثم ليحل بهم داء الأمم فيهووا الى حافة الفقر والتسول ويُتبروا تتبيرا سنة الله في خلقه .

 كان تصور ماجلان الذي يعرف الشرق الأقصى وكنوزه بموجب اشتراك سابق في حملات الاستعمار هناك واحتلال مدينة ( كاليكوت الهندية ) واجتياح مضيق مالقة ووضع اليد البرتغالية على ميناء مالقا وكل تجارة الشرق الاقصى عام 1511 م ، بموجب جيش ليس برياٌ مثل جيش الاسكندر الكبير ، بل عمارة بحرية رهيبة ، تعب ولي العهد هنري الملاح لمدة خمسين عاماً في الاعداد لها ، مكونةً من عشرين سفينة من نموذج سفن المحيط ، مزودة في ذلك الوقت بأحدث أسلحة العصر من الطاقة النارية والمدافع والخرائط ، يعلو ظهر كل سفينة خمسمائة جندي ( كوماندوس ) مايشبه قوة التدخل السريع الأمريكي ، مما مكن البرتغال من وضع يدها على معظم الممرات البحرية الهامة ، وقارات بأكملها وشعوباً لاحصر لها . وانتقلت عدوى المغامرات والاكتشافات الى كل مفاصل أوربا .

 كان أول شيء فعله ( ماجلان ) بعد أن رفض مشروعه ملك البرتغال أن توصل الى إقناع العاهل الاسباني الفتي محب المغامرات بجدوى مشروعه في وضع اليد على جزر التوابل والبهار والتخلص من حصار العالم الاسلامي لها ، فليس هناك من قارورة عطر الا ومصدرها عربي مثل باريس اليوم ، وليس من علاج الا ومكانه أرض العرب أو الهند ، فقام بأخذ عقد وتعهد من ملك اسبانيا كارل الأول .

التعهد والعقد الملكيان

 استطاع ماجلان أن يحصل على عقد خيالي من الملك الاسباني كارل الأول ( شارلكان ) الذي كان صغير السن تستهويه المغامرات فكتب لماجلان وصديقه فاليري الذي كان يعتبر الرأس النظري لمشروع ماجلان والذي تخلى عن المشروع في اللحظة الأخيرة : (إنه لايحق لأحد أن يلحق بكما ضررا وأنتما في تلك البحار تحملان عبء هذه الرحلة . هذه إرادتي وإنني أعد بألا يسمح لأحد في السنين العشر القادمة بارتياد الطريق ذاتها لاكتشاف الأماكن التي تبحثان عنها ، وإذا أراد أحد الاقدام على هذا العمل وطلب منا الاذن بذلك فإننا سنطلعكما على رغبته قبل منحه الاذن المطلوب ، لكي تتمكنا إن شئتما من القيام بنفس الرحلة ذاتها )(5) وتعطي البنود التالية ماجلان حق الاستيلاء على جزء من عشرين من دخل البلاد التي يكتشفانها ، وجزيرتين إذا زاد عدد الجزر المكتشفة عن ستة جزر وتسبغ على ماجلان لقب حاكم في جميع الاراضي التي يكتشفها

التحضير للرحلة

قام ماجلان بتحضير كل شيء تحت إشرافه ، لأنه سيمضي الى رحلة يقاسي فيها كل أنواع الحرمان ، يعيش تحت كل الظروف والفصول ، وأي نقص في شيء مهما بلغ تافهاً سيعرض الرحلة لأزمة حادة ، قد ينتهي بها بالاخفاق ، فقام بتحضير كل شيء بدءاً من عدة الصيانة وورشات النجارة وانتهاء بعدة الجراحة وسلاسل تقييد العصاة ، وتنقل لنا المذكرات استعراض عجيب للأشياء التي شحنها في بطون السفن ، بما فيها آلاف الأجراس ومئات المرايا التي تسحر أهالي الجزر البدائيين .

المرايا والأجراس لأهل الجزر البدائيين

بجانب أكياس الدقيق واللوبيا والعدس والارز والحبوب الأخرى ، 5700 ليبرة من اللحم المملح و 200 برميل من السردين و450 رزمة من الثوم والبصل 1512 ليبرة من العسل و3200 ليبرة من الزبيب واللوز ، وفي النهاية سبع بقرات سمان و20000عشرين ألف من الأجراس وتسعمائة من المرايا الصغيرة ، وعدد كبير من المناديل الملونة والقلانس الحمراء والاساور النحاسية والامشاط والحلى الزائفة وقطع الزجاج وثياب تركية لزعماء القبائل في الحفلات الرسمية ، فليس هناك من شيء يستهوي أهل الجزر البدائيين مثلها . والخلاصة لم يبق شيء لم يأخذه ماجلان معه في هذه الرحلة ، التي لايعرف أين تنتهي وكم تدوم وهل سيرجع منها سالماً ؟؟

كائن فوق البشر لايمكن قهره ؟!

ولكن الذي في السفن لم يكن ماتشتهيه النفس وتطيب له البطون فقط ، بل أطلت فوهات المدافع من كل جانب من فتحات السفن الجانبية ، وكأنها أسنان القرش الأزرق من كل أنواع الاسلحة الفتاكة ، فالاستعمار الغربي كان يمشي في العادة على ثلاث مراحل ؛ ( فالسفن الأولى التي انطلقت من لشبونة وهبطت نهر تيجو وانطلقت نحو المجهول . قد استخدمت لاكتشاف أراضي جديدة . والسفن التي تلتها في الدفعة الثانية كان هدفها التجارة مع البلدان المكتشفة . أما العمارة الثالثة فقد جهزت للقيام بأعمال حربية . ففي يوم 25 مارس 1505 م بدأ عهد الاستعمار الذي كان يوطد دعائمه دائماً على ثلاث مراحل اتبعت خلال عدة أجيال . ففي باديء الأمر ينشأ مركز للتجارة ، ثم تشاد بجانبه قلعة بحجة حمايته . وبعد أن يتبادل المستعمرون التجارة مع حكام الأقطار الجديدة ينقلون الجيوش من بلادهم لانتزاع تلك الأقطار من أصحابها والاستئثار بمنتجاتها ) ولعل هذا هو السر في قفل اليابان أراضيها لأي قدم أجنبية فحافظت بذلك على استقلالها ، وفي قصتنا الحالية مع رحلة ماجلان فلقد امتلأت السفن الخمسة بآلات الحرب والقتال فاصطحب معه 58 ثمان وخمسين مدفعاً وسبع قاذفات طويلة وثلاث قاذفات قصيرة تبرز فوهاتها خلال نوافذ السفن وقنابل مصنوعة من الحديد والحجارة تتراكم في قاعها فضلاً عن أطنان عديدة من الرصاص وألف رمح ومائتي حربة ومائتي ترس ، وكان نصف رجال الحملة مزودين بالدروع والخوذ ، يضاف الى هذا عدتين مدرعتين كاملتين للقائد العام ، تغطيانه بالحديد من رأسه الى قدميه ، وتظهره أمام سكان الجزر في مظهر كائن فوق البشر لايمكن قهره .

نوعية رجال الحملة

نفض البحارة المجربون يدهم من هذه الحملة التي لايعرف مصيرها ودخل المغامرة أناس غير ذي بال تم جمعهم من حثالة المجتمع ، فقد اقتضى انتزاعهم من أزقة الموانيء وحاناتها أسابيع طويلة ، وقد لجأوا إليه بأطمار بالية قذرة متململين ، يلهجون برطانات عجيبة لايتصورها عقل ، فقد وجد العدد الكافي من المرتزقة من كل جنس ولون ، فكان بينهم البرتغالي والاسباني والزنجي والألماني والفرنسي والانجليزي والقبرصي وغيرهم ، يرطنون بدزينة من اللغات المتباينة ، ومثلها من اللهجات المختلفة . ولم تكن المشكلة فيهم بقدر الربابنة الاسبان الأربعة الذين يقودون بقية السفن الأربعة ( سان أنطونيو حمولة 120 طن ) و( فكتوريا حمولة 85 طن ) و ( كونسسيون حمولة 90 طن ) و ( سانتياغو حمولة 75 طن ) الذين كانوا يتأملون ماجلان بنظرات مليئة بالحسد والريبة والعداء ، فهم كانوا ضمانة الملك الاسباني لرحلة يقودها برتغالي متمرد على الملك عمانويل الأول ، خاصة خوان دي كارتاجينا ولويس دي مندوسا .

إن ماجلان يتذكر تماماً الكلمات التي تفوه بها القنصل البرتغالي _ في حركة لايقاف المشروع كي تقوم به البرتغال من الشرق للوصول والاستيلاء على جزر البهار في جزر تيمور _ : ( عندما تعثر على الممر الذي يصل بين البحرين سوف يتم التخلص منك كي لاتنال شرف هذا الاكتشاف ويبقى فخره للاسبان فقط ، فتصبح طعاماً لسمك المحيط )(6) مع هذا استطاع ماجلان ضم ثلاثين من البحارة البرتغال الى كامل الطاقم البالغ عدده 250 رجلاً ، منهم المتقنون لغات المناطق التي سيرتادونها بما فيها جزر البهار تيمور ، وكان بين البحارة 12 رجلا يثق بهم ماجلان تمام الثقة . ولكن أهم رجل على الاطلاق في الرحلة كان ( انتونيو بيجافيتا ) وهو من جمعية فرسان رودس الذي جاء ليس للربح بل حبا في السفر والاطلاع والسياحة ، وكان ليوميات هذا الرجل في الرحلة الذي لم يكن بحارا وليس عنده سوى التدوين اليومي للاحداث والطبيعة والحيوانات أن خلد هذه الرحلة بأدق التفصيلات . إذ ماقيمة العمل الذي لايتحدث عنه الرواة ولايسجله التاريخ ؟ هذا الشاب الايطالي الهاديء المتواضع الذي كان يبدو أقل رجال الحملة فائدة ، هو الذي نقل الى الأحقاب العمل العظيم الذي قام به ماجلان . لقدبلغ الدقة في التفاصيل التي كتبها ( بيجافيتا ) أن سجل لنا بعض الألفاظ التي رطن بها سكان بيتاجونيا ( من الاسبانية ذوو الأقدام الكبيرة ، وأصحاب هذه الاجسام العملاقة اجتمعوا بها في جنوب شيلي والارجنتين الحالية ) الذين كان يخاطبهم بالاشارة واليه يرجع الفضل في تطوير القواميس الأولى للغات أمريكا القديمة . ومن مفاخر بيجافيتا أن نفس شكسبير الشاعر البريطاني المشهور دهش من وصف بيجافيتا لعاصفة البحر فاستخدم وصفه في مسرحيته المشهورة ( العاصفة ) .

شخصية ماجلان ( فرنان دي ماجلانس )

قصير هادي ذو لحية حمراء يجر ساقه اليسرى فهي نصف مشلولة من آثار طعنة حربة في ركبته في معركة دخل بها لاحتلال المغرب ، ونظرا لأنه سيسافر الى المجهول ولايعرف هل سيعود أم لا ، وهذا الذي حصل فهو لم يكمل الرحلة ومات قتيلا في مكان نائي عن الوطن ، فقد كتب وصيته للموت قبل رحيله بيومين ، بين التوزيع على الفقراء والكنائس ، ووريث لقبه ، ومصير عائلته . ومكان دفنه ، ولكن بقيت الوصية حبرا على ورق فلا جثته دفنت حيث أراد ، فبقي في العراء وهو مذموم ، ولاالمال بقي منه مايوزع ، ولاالفقراء لاقوا العزاء ، وأما الذي مكث بعده فعلاً فهو عمله الذي ورثته الانسانية قاطبة ، وأما المتاعب التي صادفت هذا الرجل العنيد العبوس الصامت فابتدأت منذ خطوات الرحلة الأولى .

 متاعب الرحلة

 منذ اللحظة الأولى التي انطلق فيها ماجلان بدأت المتاعب في صور شتى تحتاج لأعصاب فولاذية ، فمع الوصول بعد ستة أيام من الانطلاق الى جزر الكناري في الاطلنطي وهي جزر اسبانية ، أرسل له حموه رسالة سرية أن هناك مؤامرة يديرها ( خوان دي كارتاجينا ) لخلعه والتخلص منه في الرحلة ، وتابع ماجلان رحلته في هذه الظروف النفسية البئيسة ، وكانت هذه آخر رسالة تلقاها من الوطن . وكانت العقبة الثانية في إبقاء السفن الخمسة قريبة من بعض ، ونحن نعرف هذه الظاهرة في شوارع المدينة فيما لو أرادت مجموعة من السيارات أن تمشي خلف بعضها البعض ، باتجاه عنوان لاتعرفه سوى السيارة الأولى فقط ، ولكن هذه السفن لاتعرف الطريق ولاتعرف الهدف وليست في مدينة عامرة بالحياة ، بل هي في خضم المحيط اللانهائي ، وضياعٌ من هذا النوع معناه الهلاك المحتم للسفينة . لذا اتبع ماجلان نظام قيادي ظريف ، في أن تمشي سفينة القيادة ( ترينيداد ) في الامام يرفرف عليها العلم ، وكانت المشكلة في الليل ، وتم حلها بفكرة إضاءة المصابيح بين واحد وأربعة مصابيح في مؤخرة سفينة القيادة ، إشارة الى بطء السير أو الريح أو المطر وضم بعض القلوع الصغيرة أو كلها ، أما إذا أُطلقت المدافع أو أشعلت النيران كان معناه الحذر الشديد ، وكان على كل سفينة أن تجيب بالمثل ، علامةً على فهم الاشارة ، وكانت العقبة في بداية التمرد عندما سار ماجلان في غير الخط الذي تم الاتفاق عليه باتجاه البرازيل متجها جنوبا حذاء ساحل سيراليون قبل أن ينعطف غربا ، طلبا للريح وابتعادا عن مطاردات ملك البرتغال خصمه السابق الذي هرب منه الى التاج الاسباني لتنفيذ مشاريعه ، ولكن الضابط الملكي الاسباني (دي كارتاجينا) بدأ يتململ من قيادة ماجلان وأظهر بوادر العصيان ، فما كان من ماجلان الا أن اعتقله بضربة خاطفة مذهلة بعد أن استدرجه الى سفينة القيادة ، وتابع سيره ليصل الى البرازيل ، التي كانت قد تحولت الى مستعمرة برتغالية منذ أن اكتشفها ( الفاريز كابرال ) عام 1500 م ، ليحولها الى مستعمرة لاحقاً في عام 1509 م .

 كرونولوجيا الرحلة ( تتابع أحداث الرحلة الزمني )

 كانت مغادرة اشبيليا في 10 أغسطس آب عام 1519 م بخمس سفن و250 رجلاً أما يوم الانطلاق فكان الثلاثاء 20 أيلول سبتمبر سنة 1519 من ميناء سان لوكار وبذلك تمت مغادرة الأرض الاسبانية ، وفي 29 نوفمبر 1519 م كان الوصول الى ساحل البرازيل وفي 13 ديسمبر دخلت السفن الخمسة خليج ريو دي جانيرو بعد سفر استغرق 11 اسبوعاً (7) وفيها وصف بيجافيتا ثمار الاناناس وقصب السكر والبطاطا(8) وكذلك رخص الاسعار هناك فمرآة صغيرة بعشر ببغاوات وجرس صغير مقابل سلة مليئة بالبطاطا وكذلك بيع الفتيات فمقابل سكين يحصل على ثلاث فتيات ملك يمين مدى الحياة !!

 وفي 10 يناير 1520 م وصل ماجلان الى رأس ( سانتا ماريا ) الذي هو اليوم مكان مدينة ( منتفيديو ) عاصمة ( الاورغواي ) الذي أطلقه عليه ماجلان وكان يبحث بحرقة عن الممر المزعوم الذي رآه في خريطة الجغرافي الألماني ( مرتان بيهايم ) فسر أشد السرور وظن الجميع أن فتحة المحيط الهادي أصبحت قاب قوسين أو أدنى ، ولكن الخليج لم يكن بكل أسف سوى المصب العظيم لنهر ( ريو دي لابلاتا ) الذي يضم في حقيقته مصب نهرين وترقد بجانبه عاصمتين ، نهر ( أورغواي ) ونهر ( بارانا ) ، مونتفيديو عاصمة الاورغواي وبوينس آيرس ( الهواء العليل ) عاصمة الارجنتين ويبلغ عرض المصب 320 كم ـ بعد صدمة الخيبة من الوصول الى الممر السري الذي اعتقد بمعرفته من خريطة الجغرافي الألماني ( ميرتان بيهايم ) دخل في حالة كآبة وإحباط نفسيين فظيعين فبدأ يبحث كالمجنون عن الممر الفعلي إن كان موجوداً ، هذه المرة بالمزيد من الاقتراب من الصقع الجنوبي فخط العرض بدأ يتجاوز الأربعين ، والبرد والثلج يجمد كل شيء ، والبحارة يتململون ، والربابنة الاسبان يضحكون على ماجلان ويتندرون ، وإذا مروا به يتغامزون . ولكن عزيمة ماجلان لم توهن فتابع الرحلة في ظروف جوية مرعبة ووضع نفسي محبط وتآمر اسباني ( باعتباره برتغالياً ) محدق به ، فاستؤنفت الرحلة تحت أشعة شمس كئيبة وازدادت الوحشة فظاعة وجعلت الأيام تقصر والليالي تطول ، والسفن الآن لاتسير في جو رقيق ، بل زوابع عنيفة تعبث بالقلوع والثلج والبرد يتساقطان عليها بشدة ، وقد استغرق اجتياز المسافة القصيرة التي تفصل بين ريو دي لابلاتا ومرفأ سان جوليان شهرين كاملين ، فالسفن تكافح الزوابع كل يوم ، والرياح تهز الصواري والقلوع بعنف والممر المنشود لايظهر له أثر )(9) وأرجو من القاريء أن يحضر أثناء قراءة هذه المقالة خريطة العالم سواء الورقية المسطحة أو الكرة الأرضية ( الطابة ) ويتأمل خطوات الرحلة ويشرح هذه المغامرة الانسانية الكبرى في التاريخ الانساني لأولاده فهي بحق متعة نحن نتسلى بها ونتعظ ، ولكن أصحابها دفعوا حياتهم ثمناً لهذا الاكتشاف فمن أصل البحارة لم يرجع الا أقل من عشرهم لأن هذه الاكتشافات هي التي غيرت العالم وقلبت ميزان القوى في الكون لصالح الغرب ضد المسلمين، وقبل أن نمضي في استعراض هذه الرحلة الشيقة العجائبية الى نهايتها ، ننقل تعليقاً هاماً للمؤرخ الأمريكي عن آثار الرحلة ، كما نفاجىء بالنهاية الدرامية للغزاة المكتشفين الاسبان الذين أذاقوا كأس المرار مترعاً لشعوب الأرض الجديدة ، فذاقوا من نفس الكأس ، وتلك الأيام نداولها بين الناس .

عاقبة الغزاة الاسبان

 فأما كولومبو الذي اكتشف أمريكا بدون أن يعرف بصدفة تاريخية عجائبية فكان مصيره أن أُرسل الى اشبيلية مصفداً بالاغلال ، وأما ( هيرناندو كورتيس ) مدمر حضارة الازتيك فقد بقي مغضوباً عليه من البلاط الاسباني مدى الحياة ، في حين أن ( فرانسيسكو بيزارو ) الذي اغتال ملك الانكا بالخنق ختم حياته مقتولاً ، وأما ( نينيو دي بلباو ) الذي كان أول من حدق الى صفحة المحيط الهادي كمكتشف أول له من البر فكلفته هذه الاطلالة أن طار عنقه واحتز رأسه ، وكانت نهاية ماجلان قتلاً ولكن بيد أهل الجزر البعيدة ، فعلى هذه الصور كانت النهاية البئيسة لهؤلاء المغامرين المكتشفين الذين غيروا صورة العالم ومصير أوربا بضربة سحرية .

آثار الرحلة

 حسب ديورانت يعتبر أن ثورة ماجلان غيرت موازين العالم على الصورة التالية : (( فتحت أعظم ثورة تجارية في التاريخ ( قبل أن تبلغ الطائرة مرحلة النضج ) المحيط الاطلنطي وغيره من المحيطات للتجارة الاوربية ، وخلفت البحر المتوسط في حالة ركود تجاري ، تبعه بعد قليل ركود ثقافي ، وانتقلت النهضة من إيطاليا الى دول الاطلنطي ، وراحت أوربا التي كانت تملك سفنا ومدافع أفضل وسكانا أصلب وأشد رغبة في التملك والمغامرة ، راحت تفتح _ وأحياناً تستعمر _ البلد تلو البلد من الأقطار المكتشفة ، وأُكره السكان الوطنيون على العمل المتصل الشاق الذي لم يتعودوه لانتاج السلع لأوربا ، وأصبح الرق نظاماً راسخاً ، وغدت أصغر القارات تقريباً أعظمها ثراءً ، وبدأت حركة صبغ الكرة الأرضية بالطابع الأوربي )(10)

مراجع وهوامش

 (1) تراجع تفاصيل الرحلة بالكامل في كتاب ( المكتشفون العظام ) باللغة الألمانية DIE GROSSEN ENTDECKER ) ) ص 58 ـ رحلة ماجلان ( 1480- 1521م ) (2) جاءت في القرآن في كلٍ من سورتي التوبة والتحريم ( الآية 112 و 5 على التتالي ) بوصف ( سباعي ) لكلٍ من المؤمنين والمؤمنات برزت فيها صفة السياحة للفريقين ، وذهب معظم المفسرين القدماء الى حل إشكالية سياحة المرأة بقلبها الى معنى الصيام ، ولكن المفسر القاسمي ذهب الى عدم صرف هذا المعنى الا بوجود قرينة صارفة عن المعنى ولاوجود لها . تأمل الآن الآيتين مع إجمالي الصفات السبعة للفريقين وهو أمر ملفت للنظر يدعو للتأمل ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا )(3) مقدمة ابن خلدون ص 33 (4) ويل ديورانت - قصة الحضارة - ترجمة فؤاد اندراوس - لجنة التأليف والترجمة والنشر - الجزء 27 - ص 141 (5) كتاب ماجلان قاهر البحار _ تأليف ستيفان زيفايج _ ترجمة حبيب جاماتي _ ص 58 (6) تراجع في هذا القصة الشيقة التي كتبها الروائي النمساوي الشهير ستيفان زيفايج _ ترجمة حبيب جاماتي _ مختارات الاذاعة والتلفزيون _ ص 68 - والجدير بالذكر أن الكاتب المذكور هرب من الاضطهاد النازي الى البرازيل ومات هناك منتحراً (7) سميت المدينة خطأً بأن هناك نهراً خلفها فكلمة ( ريو ) تعني نهرا باللغة الاسبانية و( جانيرو ) نسبة الى القديس ( يناير ) وكثير من الأمكنة والمدن أخذ من الاسبان المعنى الديني ، لدولة خرجت من حروب صليبية مرهقة دامت حروب الاسترداد فيها ثمانية قرون ضد العرب في شبه الجزيرة الايبرية مما جعل تكوينهم الروحي في غاية الصلابة والتعصب والانغلاق وانتقلت عاصمة البرازيل عام 1961 م من ريو دي جانيرو الى برازيليا (8) كان اسمها الباتات وبعد نقلها الى أوربا أصبح اسمها البطاطس كما يسمى يوميدورا أي تفاح الأرض ومن هنا أخذ اسم البندورة في بلاد الشام ، وهكذا فنحن نتنمتع اليوم بأكل البندورة ( الطماطم ) والبطاطا الى سكان أمريكا الذين تمت إبادتهم على يد الاسبان والبرتغاليين (9) ماجلان ـ زيفايج ـ حبيب جاماتي ص 105 (10) قصة الحضارة ـ ديورانت - الجزء 27 - ص 146 .