الغائب الحاضر
محبوبة هارون
"ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين" صدق الله العظيم
هكذا كان رحمه الله، ونحسبه ونحتسبه في مقعد صدق عند مليك مقتدر، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..
إنه العالم العامل، المخلص والمخلَص، صاحب القلب النقي التقي الودود الذي أحبه الحجر والشجر قبل الطير والبشر، واليوم...
الطير لم يصدح، تبدل لحنه |
|
فإذا الغناء تلهف ورثاء |
"أنت كنت فين" هكذا بدأني الراحل عنا والمقيم فينا بعد إلقاء قصيدة لي في ندوة أقامها مركز الإعلام، تلك النافذة المضيئة في زمن التعتيم، كان فيه من أولى اهتمامات الدولة بكامل مؤسساتها، كانت تلك الندوة المباركة في نقابة الصحفيين، في أعقاب الاعتداء على السفينة التركية "مرمرة" أثناء سيرها لكسر حصار غزة الأبية..
بعد انتهاء الندوة استدعاني فضيلته وبادرني بسؤال يعكس خفة ظل قائله حيث هي المرة الأولى التي أشرف بمقابلته وهو يسأل "كنت فين" فكانت ابتسامة الدهشة والسعادة اللامحدودة وأنا أمام هذه القامة والقيمة التي ترتدي ثوب التواضع والحنو، فتزداد جمالا وبهاء ورفعة..
فهذا الأبي احتواه الجلال |
|
يجول بثوب التقى والنقاء |
فقلت ضاحكة مستبشرة: أنا هنا، ولكن...
فقال: أف لـ "لكن" هذه
قلت: عموما أنا كتبت حديثا مع الانتفاضة الثانية، وأكتب بالبركة.
قال: أنت كالنابغة الذبياني.. هل تعرفينه؟ وحكاية البركة دي عشان باين عليك إن كلك بركة.
وأنت شاعرة مطبوعة، وتبسم قائلا: طبعة أولى..
ونظر إلى الأستاذ صلاح عبدالمقصود معالي وزير الإعلام الآن ، وقال : إزاي ماتعرفهاش يا صلاح؟ دي كنز.
فقلت: مشروب كنز يعني؟
قال: لا كنز حقيقي.. وكانت لا مفخمة
فقلت لشعري حلال عليك |
|
قميحة أهداك سر البقاء |
وبدأ التواصل والتلاقي، وكلما أسمعه شيئا يقول "يا صلاة النبي أحسن"
وكلفني فشرفني بكتابة قصيدة خلال يومين لأن كتاب "نجم في سماء الفكر والإبداع" في المطبعة، وكان ذلك حلما، خاصة وأنني لم أشرف بحضور ندوة تكريم سعادته في أبريل 2010م فلم أكن التقيته بعد.
فكانت قصيدة "حلم لشعري" ص 206 من كتاب "نجم في سماء الفكر والإبداع"
فاتصل بي متفضلا كعادته، وكم كانت سعادتي وأنا أسمع: ألم أقل لك إنك.....
واستطرد في كلامه الفخم الضخم، وقال ضاحكا معلقا على بيت يقول:
تمهل قريضي فمن أنت قل لي |
|
تريد تشق عنان السماء |
حلوة فمن أنت قل لي "دي جديدة جبتيها منين"
فقلت: يالك من
بشوش بخفة ظل عطوف |
|
فللحزن بين يديك الشفاء |
قال: حمدا لله على السلامة.. يعني لابد أن يترك محدثه وقد رسم البسمة على وجهه، وأدخل السرور إلى قلبه.
وسألني: هل كتبت للدكتور محمد عمارة؟
فقلت: نعم "فارس العلم"
قال: وماذا عن شيخنا القرضاوي والمستشار العقيل، سنحتفي بهما قريبا، فكتبت "فارس الميدان" و"نهر العطاء" أُلقيت في احتفالية المستشار العقيل، وكم شجعني وأسعدني..
دعاني لزيارته فذهبت والشاعر محمود شحاتة الذي كان يحبه ويقول عنه إنه "جوجل" لسعة معرفتة وثقافته، ولو أن الأمر بيده لمنحه الدكتوراه، فهو لم يأخذ فرصته..
وأخذ يسأل والشاعر يجيب فيزداد إعجابا وتقديرا له، وأخيرا فاجأه بسؤال من العيار الثقيل، وشك في قدرة الشاعر على الإجابة، وفعلا صدق حدسه، فالسؤال معجز (كوز المحبة اتخرم) من صاحب هذه المقولة يا محمود؟ وكان الشاعر قد اعتدل في جلسته ترقبا للسؤال المعجز فكانت الدهشة والبسمة، فماذا نحكي يا سيدي:
يا سيدي عجز البيان كما ترى |
|
وتلعثم الخطباء والشعراء |
فعن أي جانب نتحدث من جوانب تلك الشخصية المحبوبة التي تبث روح الفكاهة والأمل..
فالهم يهرب كلما طالعته |
|
ويزور قلبك نفحة وصفاء |
إنه التقي النقي الذي يبدأ كلامه بالصلاة على النبي
حب الرسول أنيسه وملاذه |
|
تنبيك أخلاق له ونقاء |
إنه العالم العامل الذي يعرف قدر الكلمة، فالكلمة عرض كما قال، لذا فقد عاش لقلمه وليس بقلمه كما أخبرنا تاريخه الناصع..
يبكيه علم لم يدع محرابه |
|
يبكيه حرف ما انحنى وإباءُ |
إنه تواضع العلماء وحياء العارفين..
يا له من إنسان أحبه كل من سمع عنه، فما بالك بمن رآه..
فقد كان بدرا يشع ضياه |
|
بحيث وكيف وأنى يشاء |
فرغم أن المدة التي عرفته فيها كانت قصيرة زمنيا، إلا أنها ثرية غنية شأن صاحبها، فقد كان يشجعني بكلمات أتممتهن، كلمات فخمة ضخمة كقائلها، فأرد: "معقول أنا كل ده" فيقول: وأكثر
أنت لا تعرفين قيمة نفسك، إنك شاعرة، إنك تنفذين إلى القلوب، فأنت كاسمك "محبوبة" وهذا من فضل الله عليك.
فقلت: أريد ذلك مكتوبا وموثقا في الشهر العقاري، فتبسم ضاحكا من قولي، ونظر إلى زوجته وطلب مساعدتها في هذا، وقال: أفعل إن شاء الله..
وبمثل هذا كان ينفخ فيَّ من روحه السمحة المرحة، وكنت أتوق لسماع كلامه الجميل، فأتصل به لأسمع قوله "آلووو حياك الله وبياك وجعلك من كبار الملاك وكلنا نجري وراك وناخد القرشين اللي معاك" أهناك أجمل من ذلك..
فمهما وصفت تعز المعاني |
|
وتأسى.. عجزت ألبي النداء |
وفي مكالمة لم أظنها الأخيرة قبل الرحيل بأسبوع قال "عايزك تكتبي شعر ملحمي، أنت نفسك الشعري طويل"
قلت: كتبت ملحمة الطفل الشيشاني وهي من أوائل قصائدي.
فدعا لي وأنهى المكالمة على غير عادته، فلم أسمع مقالته الجميلة، فترك ذلك في نفسي شيئا، حيث كان صوته متعبا، فاتصلت يوم 8/11/2012م لأطمئن عليه فلم يرد وكان ما كان..
لقد ذاب في حب مصر، فعاش مصدر إزعاج للسلطة وكل من أرادها بسوء..
فعزاؤنا أن قد شهدت لمصرنا |
|
فجرا يتوق لنيله النبلاء |
وكان في رباط دائم يذود عن أمته..
فنراه فينا يستجير مجددا |
|
إيهٍ دمشق قتنطق الأشلاءُ |
إنه الغائب الحاضر، الراحل عنا والمقيم فينا، وهكذا أعيش على ذكرى هذه الفترة القصيرة الطويلة الموغلة في الحب والتقدير والامتنان..
وأنقل حزن زوجي الذي منعه مرضه من حضور العزاء، فهو لم يسلم من مداعبته عندما يدعوه بالشاعر المتقاعد عبدالخالق الشنديدي، حيث شغلته أسفاره واهتماماته، فهو الباحث في مقارنة الأديان، وقد أسلم على يديه وصديقه الدكتور عبدالمنعم بللا السوداني أكثر من ثلاثين رجلا وامرأة من غير العرب في دولة الإمارات العربية.
وهكذا لم يترك أحدا ممن عرفه أو تحدث معه إلا وترك لديه ذكرى وبسمة وبصمة، فما بال زوجته وأولاده؛ لهم منا كل الدعاء، ولن ننساه حتى نلقاه..
أستاذنا عز اللقاء فلم يعد |
|
إلا سلام عاطر ووفاءُ |