بين فوضى الغابة وطغيان الدولة

ذخائر الفكر الإنساني (11)

مفهوم السلطان = القوة = POWER

الدولة والعنف

د. خالص جلبي

[email protected]

عندما مر كونفوشيوس على مقربة من جبل (تاي) أبصر بامرأة تقف الى جانب أحد القبور وتبكي بمرارة وحرقة. فسارع المعلم اليها. وبعث بتلميذه (تسي  لو) يسألها: أنك لتبكين يا امرأة وكأنك احتملت من الأحزان فوق الأحزان. فردت المرأة تقول: وكذاك الأمر فقد قتل نمر من قبل والد زوجي في هذا الموقع. وقد قتل زوجي أيضاً. وهاهو ولدي قد مات نفس الميتة أيضاً. فقال المعلم: ولماذا .. لماذا لم تتركوا هذا المكان؟ فردت المرأة: ليست هنا حكومة ظالمة. فقال المعلم آنذاك تذكروا قولها يا أولادي: إن الحكومة الظالمة أشد فظاعة من النمر. نعم إن الحياة في غابة أفضل من الحياة في مجتمع بدون قانون.

ويعقب الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه (السلطان) على هذه الواقعة لللتأكد من (كون الحكومة أقل فظاعة من النمر) فيرى أن مشكلة ترويض السلطان موضوع قديم :(وظن الطاويون أنها مشكلة لاتحل فنصحوا بالفوضوية، وجرب العالم الحكم العسكري المطلق والثيوقراطي والملكية الوراثية وحكم القلة والنظام الديموقراطي وحكم القديسين ويدل كل هذا على ان مشكلتنا لم تحل بعد).

تقوم الدولة على العنف واحتكاره ولاشيء أوضح من عنف الدولة من الآلة العسكرية الجاهزة للضرب في أي لحظة فتجد الشرطي مسلحا بمسدس محشو الطلقات، والقوات المسلحة مبرمجة لقتل أي كان في أي لحظة على  الأوامر مثل أي آلة حديدية فاقدة الارادة تعمل بضغط الأزرار، أو رجل الأمن وهو يلقي القبض على المواطن فيرفع رجليه (للفلق) كما يجري في أقبية الكثير من البلدان العربية لانتزاع الاعترافات. و هذا النوع هو ( السلطان العاري) ويمكن للدولة أن تمارس ضغطها الساحق في صور شتى كما في علاقتنا بالحيوانات سواء بتعليق الخاروف بحبل وشده بعنف، أو عندما يلحق الحمار الجزرة مقتنعاً أن مصلحته في أن يفعل مانريد، أو الحيوانات التي تتقن (التمثيل) وسطاً بين هذين الصنفين، أو بصورة مغايرة كما في قطعان الأغنام عندما نريد حملها الى البواخر فنجر قائد القطيع بالقوة فلاتلبث حيوانات القطيع الأخرى أن تسير وراءه راضية مختارة). وحسب (راسل) فإن: (حالة الخاروف تتمثل في في سلطان الشرطة والقوات العسكرية. وتمثل حالة الحمار والجزرة سلطان الدعاية. وتظهر الحيوانات الممثلة قوة التعليم فتؤدي الجماهير التحية للقائد البطل. أما القطيع الذي يتبع قائده المقهور على ارادته فيتمثل في السياسات الحزبية عندما يكون زعيم الحزب أو قائده موثوقاً الى زمرة من الناس).

إن مشكلة الدولة التي اخترعها الجنس البشري تشبه الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة. والسؤال متى ولماذا وكيف ولدت الدولة؟ يضع (بيار كلاستر) عنواناً مثيراً لكتابه ( مجتمع اللادولة) مفترضاً أن الدولة ليست شرطاً للاجتماع الانساني وهي شيء طاريء على الانسان. وهذا صحيح من جانب ويذهب (ابن خلدون) في المقدمة الى تقرير الاجتماع الانساني (كضرورة للبقاء) بسببين (الغذاء) و(المدافعة). أما عالم الانثروبولوجيا (بيتر فارب) فيرى في كتابه (بنو الانسان) أن المجتمع يصنع الفرد من مادة خام الى كائن اجتماعي. ففي عام 1799 م تم العثور على صبي متوحش في غابة (أفيرون) وكان أقرب الى الحيوان فحاول الدكتور (ايتار كسبار) تعليمه آداب السلوك والنطق فنجح في تهذيبه قليلاً أما النطق فكان الطريق اليها حجرا محجورا، مما يشير الى أن السنوات الأولى في عمر الانسان حاسمة لإدخاله المجتمع الانساني وامتصاصه كل الخبرات المتراكمة وتعلمه النطق ليتحول الى كائن اتصالات.

إن الوالدان يمنحان الفرد وجوده البيولوجي بالجينات ولكن المجتمع بالثقافة يختزل كل التاريخ للطفل. وحتى هنا كان شرح المسألة في جانبها السهل والايجابي ولكن المعادلة المحيرة التي تعجز رياضيات المجتمع عنها هي في الجانب السياسي. يرى (راسل) أن المخلوقات البشرية لابد لها من أن تعيش على نحو جماعي ولكن رغباتها :(خلافاً لرغبات النحل تبقى فردية ومن هنا تنشأ المتاعب والحاجة الماسة الى قيام حكومة).

وعند هذا الخيار الموجع بين (فوضى الغابة) و(طغيان الدولة) ولدت الحكومات ولكن مع عدم التكافؤ في السلطان: (إذ أن من يملكون أكثره يستخدمونه لتحقيق رغباتهم التي تتعارض مع رغبات المواطنين العاديين وهكذا فإن الطغيان والفوضى يتشابهان في نتنائجهما المدمرة) أو كما قال (افلاطون) في كتابه (الجمهورية):(إن عقيدتي هي أن العدالة لاتخرج على أن تكون مصلحة الأقوى). ويرى المؤرخ (توينبي) أن الجنس البشري بنى مجتمعات بدائية ربما وصل عددها الى 600 قبل أن تبني الحضارات وكانت في حدود 30 حضارة. وهي رحلة قصيرة في عمر البشرية بدأت قبل ستة آلاف سنة. وانطلقت على الأرجح من جنوب العراق الحالي، ولايستبعد أن يكون طوفان نوح هو زناد نشر الحضارة في الأرض كما اظهرت ذلك بعض الأبحاث الأركيولوجية الحديثة، عندما ارتفع مستوى المحيطات بذوبان جليد القطب قبل 7500 سنة فاندفعت الى المتوسط وفوهة الدردنيل حيث واجهت عتبة صخرية صغيرة محل البسفور الحالية وكان زخم تدفق المياه أقوى من شلالات نياجارا ب 400 مرة وارتفاع الموج 150 مترا فانكسرت العتبة وتدفقت المياه واجتاحت منطقة صوامع حبوب العالم القديم حول بحيرة كانت في منطقة البحر الأسود الحالي خلفها لتفاجيء مجموعة الشعوب المتحلقة حولها ومع فرار هذه المجموعات البشرية الأولى في كل اتجاه انتشرت بدايات الثورة الزراعية الى كل مكان.

وكما نقلنا عن ابن خلدون في تصوره لضرورة الاجتماع الانساني أنه لو فرضنا:(قوت يوم من الحنطة فلايحصل الا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج الى مواعين وآلات لاتتم الا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري، فلابد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف). وبولادة الدولة العصرية أمكن للانسان أن يقفز من مرحلة الغابة الى مرحلة الحضارة فأنتج فائضاً من الغذاء وتحرر من الجوع وتشكلت الحكومة المركزية التي احتكرت العنف لنفسها مقابل توفير (الأمن) للأفراد الذين يعيشون تحت ظلها واستسلامهم الكامل لأرادتها. ومع الأمن امكن للناس ان يعيشوا ويتبادلوا السلع والخدمات ويظهر النقد والتجارة وتشق الطرقات وتبنى الجامعات وكل مانعرفه عن نعمة الحياة العصرية. هذا هو الجانب الايجابي من مظاهر الدولة ولكن مع ولادة الدولة برز الى السطح مرضان كريهان: (الطغيان الداخلي) و(الحروب الخارجية). فمع سقوط تفاحة السلطة الشهية في يد الأفراد والنخب أدركوا أنهم وضعوا أيديهم على امتيازات مخيفة فالعرش لذيذ ومغري لأبعد الحدود عندما تجتمع كل السلطات بيد شخص أو حزب او عائلة أو طبقة أو طائفة. تحتكرها لنفسها وتتميز بها. والحاكم لايترك السلطة قط  ولا النخبة التي تسبح في عسل السلطة بالعشي والابكار. وكما يمرض البدن يقع المجتمع في قبضة الطغيان فيصاب بعاهة في رحلة تطوره. وهو المرض الذي جاء الانبياء في التاريخ لعلاجه. ولن تجد لسنة الله تبديلا. بحيث تؤدي (آلة الحكم) وظيفتها من خلال تأمين جرعة الأمن المناسبة للمجتمع لايزيد. المجتمع لاينمو بدون (أمن) ولكن تحول أجهزة (الأمن) الى أجهزة (رعب) تقتل كل تطور. ويذكر (فرانسيس فوكوياما) في كتابه (نهاية التاريخ) أن القيادة السوفياتية اضطرت في النهاية ان تفكك جهاز الرعب الذي صنعته بيدها، وكما يقول المثل العربي سمن كلبك يأكلك. فكما كانت الجرعة الدوائية في حدودها المقررة شفاء من المرض كذلك كانت الجرعة الزائدة سمية قاتلة. كانت وظيفة الأنبياء إيقاظ  ضمير الانسان الى عدم الاستسلام لالوهية البشر من خلال طغيان الدولة. وأن لاتقدم الأمهات أولادهن طعاماً لملهاة الملوك في الحروب على حد تعبير توينبي. وجرعة (الأمن المناسبة) لاتحتاج الى بناء جيوش واجهزة أمنية بحجم الديناصورات. ولكن المشكلة معقدة بسبب (الطبيعة البشرية).

ودرس الأمام الغزالي قديماً ظاهرة (عشق السلطة)  واعتبرها آخر مايخرج من قلوب الصالحين، وهي لذة لاتوازيها أي لذة في الدنيا عندما تتحرك الجموع بأشارة من يد، وتخر الرقاب ساجدة بحمد القائد، وبحركة أصبع ترمى صرر الذهب الى الأتباع والمقربين. أو بتعبير (راسل) :(الحيوانات تكتفي بالتوالد والبقاء ولكن الانسان يتشوق الى التوسع والتمدد فكل انسان يود أن يكون الهاً إذا أمكنه ذلك وقليلون الذين يجدون من الصعب عليهم قبول هذه الاستحالة).

وراهن الدين على منحنا صفة الهية وهي الخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار. ثعبان (البوا) اذا جاع ازدرد فريسته ثم عاود النوم بعد إشباع غريزته، ولكن (كزركسيس) الملك الفارسي لم يكن ينقصه طعام او زوجات عندما اتخد قرار الهجوم على اليونان، كما ان نيوتن لم يكن ينقصه مال عندما طور كتابه (المباديء) في الفيزياء. ويعتبر التفسير الاقتصادي الماركسي للتاريخ اعرجاً لايقوى على الوقوف امام هذه الظاهرة.

عند هذه النقطة ياتي دور الأنبياء الاجتماعي عندما قالوا (لااله الا الله) بمعنى سحب الامتيازات من البشر في صورة الملوك والكهنة والعرافين والسحرة أو الحكام العصريين الذين يمارسون دور الألوهية ويدعون الديموقراطية.

وهذا هو لب التوحيد وهو الذي تسعى اليه الديموقراطية الحديثة بنزع السلطان من يدي الأفراد أو الأقليات واشراك اكبر عدد ممكن بشكل فعلي في اتخاذ القرار وكل نفس بما كسبت رهينة. وهذا التوحيد ليس سماويا بل أرضيا وهو سياسي اجتماعي وليس تيولوجي غيبي. وهو ما يفسر تعرض الآمرين بالقسط من الناس للقتل.

وأما المشكلة الثانية التي ولدت مع الدولة فكانت الحرب. فالصراع المسلح كان ومازال بين الدول أو عند تفكك الدول. وبقدر مانجحت الدولة في توفير الأمن للأفراد داخل مظلتها عجزت عن ذلك مع مربعات الدول المجاورة لانعدام قوة أكبر تحسم النزاعات. وكما يقول (علي الوردي) في دراسته الموسوعية عن (تاريخ العراق الحديث) :(إن الدول الآن تعيش نفس المرحلة التي عاش فيها الأفراد قبل ظهور الحكومات المحلية فكل دولة تريد أخذ حقها بحد السيف).

وهذا يعني بكلمة ثانية أن ظاهرة الحرب سوف تستمر حتى تقوم دولة عالمية تحسم النزاعات بقوات مسلحة صغيرة فعالة مجهزة للحمل لأي مكان ومزودة بأسلحة متطورة. وهذا قد يحتاج ربما مائتي سنة أخرى.

ودع آدم الجنة ودخل وابناؤه تحت مظلة الدولة بعضهم لبعض عدو، وولدت الحضارة بالتحدي، وتقدم البشر على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع، وكتب التاريخ بمداد أحمر. وتساءلت الملائكة عن جدوى خلق هذا الكائن المفسد المجرم وكان الجواب الالهي أني أعلم مالاتعلمون.