تحطيم المجتمع السوري
تحطيم المجتمع السوري
سمير الزبن
عند الاستيلاء على السلطة بفعل انقلاب عسكري، تتوجس السلطة الجديدة من كل شيء، ليس لأنها استخدمت العنف للوصول إلى السلطة فحسب، بل ولأن الوصول إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري يأتي بفعل سلسلة من التآمر بين شركاء هذا الانقلاب أيضا. فمن يأتي إلى السلطة بانقلاب عسكري، سيبقى، طوال الوقت، يبحث عن مؤامرة تحاك ضده هنا أو هناك لإطاحته، فمن شارك في مؤامرةٍ، وأوصلته إلى الرئاسة، يعتقد، كما تآمر على الآخرين، أن هناك من يتآمر عليه طوال الوقت.
هذا ما يفسر الشخصية الارتيابية للديكتاتور الذي يأتي إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، وهذا ما يفسر الكلام الذي قيل عن حافظ الأسد في عمله المتواصل ثماني عشرة ساعة يوميا، مهووساً بالسلطة. ماذا يفعل ديكتاتور بكل ساعات العمل هذه، وكأنه يدير دولة أهم من الولايات المتحدة الأميركية التي لا يعمل رئيسها كل هذا الوقت؟
إنه يفكك السلطة، ويعيد تركيبها، وبعد ذلك، يحاول تفكيك المجتمع وإعادة تركيبه. هذا ما كان يقوم به حافظ الأسد خلال ثلاثين عاما من القبض على السلطة في سورية. مع وصوله إلى السلطة، أخذت الإجراءات التي تُفقد الجيش أي قدرة على القيام بانقلاب عسكري في سورية طريقها إلى الجيش، وقد نجح الأسد الأب في تفكيك هرمية الجيش، وإفقاد الأركان العامة للجيش أي قدر على التحكم بالجيش، وأفقد قادة الوحدات القدرة على التحكم بوحداتهم، وربط كل ذلك بالرئاسة، وبه شخصيا عبر الأجهزة الأمنية، القادرة، كما أدرك الأسد الأب، على حماية النظام، لكنها غير قادرة على القيام بانقلاب، فالجيش هو الجهة الوحيدة القادرة على ذلك. لذلك، كان من الضروري تفكيك بنية السيطرة على الجيش من الأركان وقادة الوحدات، وزرع ضباط الأمن في كل قطعة عسكرية، من السرية حتى الفرقة. الكل يتجسس على الكل، والكل يعمل عند أجهزة المخابرات، وأجهزة المخابرات تعمل عند الديكتاتور، بوصفه ولي نعمتها. هذه الآلية التي كرسها الأسد الأب، هي التي تفسر عدم قدرة أي من الضباط السوريين الذين انشقوا عن جيش النظام في الثورة السورية، أن ينشق مع وحدته العسكرية، كل الضباط، وبصرف النظر عن رتبهم العسكرية، انشقوا من دون وحداتهم العسكرية.
ما فعله الأسد الأب في الجيش كرره في الساحة السياسية السورية، فقد صاغ تحالفات مع بعض القوى السياسية، في مقدمتها الشيوعيون التقليديون، في إطار أطلق عليه اسم "الجبهة الوطنية التقدمية" أعطاهم امتيازات في الوزارات، لكنه منعهم فعلياً من العمل السياسي في المجتمع السوري، منعهم من العمل في قطاعات اجتماعية واسعة، يتقدمها قطاعا الجنود والطلاب. صحيح أنه منحهم وزارات، واعتبرهم شركاء سياسيين في قيادة البلد والوزارات والنقابات وغيرها، لكنها كانت شراكة شكلية، وبقيت السلطة الفعلية بيد الديكتاتور دون شركاء، والآخرون مجرد ديكور يستدعيه عند الحاجة. كل من لم يقبل أن يكون غطاء سياسيا للديكتاتور، كان مصيره المعتقلات آجالاً تطول أحيانا حتى نهاية العمر. حتى على مستوى الوزارات التي لها وظيفة خدمية، كانت تدار فعليا من مكاتب متخصصة في القصر الجمهوري، والوزارات لم تكن سوى هياكل شكلية وتنفيذية لأوامر القصر الجمهوري.
اعتمد الأسد الأب الآلية نفسها في إعادة هندسة معمار المجتمع السوري، وكان حريصا أن تظهر سلطة الديكتاتور بوصفها المانح والمانع للمغانم. فهو من يستطيع أن يُعلي من شأن أي أحد، وممكن أن يخفضه كما يشاء، إنها حلولية الديكتاتور مكان الآلهة في القدرة على التأثير في حياة مواطنيه. كانت إعادة صياغة العلاقات بين الفسيفساء الطائفية السورية، أخطر ما غرس فيه سكينه، وتحت شعارات وطنية قومية كبيرة، كان يعزز النزاعات الطائفية، عند كل الطوائف السورية، خصوصاً الأقليات. وقد استثمر الأسد الأب هذا الشحن الطائفي، ليحصل على الولاء المطلق للطائفة العلوية، بتصوير الطائفة السنية الخطر الأكبر على العلويين، وهذا ما جعله يصادر الطائفة، ويستخدمها مخلب قط ضد جميع السوريين.
لم ينجح كل هذا الفك والتركيب في المجتمع السوري في إخضاعه تماما، على الرغم من أن سورية بدت في عهد الأسد الأب بوصفها "مملكة الصمت، على حد تعبير المعارض السوري، رياض الترك. وقد تعززت "مملكة الصمت" بعد الصدامات مع الإخوان المسلمين مطلع الثمانينيات، عندما شهدت مدينة حماة وجودا مسلحا فيها، لم يسحق الأسد الأب المسلحين فحسب، بل سحق المدينة بسكانها، لتكون عبرة لكل سورية. فالوجود المسلح للطليعة المقاتلة في مدينة حماة الذي قدر حينها بأقل من 200 شخص، لم يكن يستدعي كل الوحشية والدمار والقتل الذي تعرضت له المدينة، وراح ضحيتها في فبراير/ شباط من العام 1982 في أقل التقديرات 20 ألف قتيل، وفي أكثرها 40 ألف، وما زال العدد الحقيقي مجهولاً، وذلك كله من أجل تفكيك البيئة الحاضنة للإخوان المسلمين.
كانت مجزرة حماة هي البروفا، وكانت سورية بانتظار عرض المذبحة الشامل على يد الأسد الابن، فبعد المجزرة ساد اعتقاد عند أتباع النظام أنها أسكتت سورية إلى الأبد. لذلك، كان رجال النظام يستدعونها مثلاً تهديدياً للبنانيين والفلسطينيين من نظام لا يتورع عن فعل شيء، وقد هدد نائب الرئيس السوري الأسبق، عبد الحليم خدام الفلسطينيين قائلا: "لا تعتقدوا أن مخيم اليرموك أغلى عند السيد الرئيس من حماة". منذ نجاح الأسد الأب بإسكات حماة، وإخافة البلد، باتت هذه السياسة المعتمدة من أداة القتل التي صممها الأسد الأب. وعند أول احتجاج سوري على السلطة في سورية في درعا في عهد الابن، تم استخدام الرصاص الحي، وخلال أيام، كانت الدبابات في الشوارع، على الرغم من سلمية التحركات السورية.
عمم الأسد الابن مجزرة حماة على كل الأراضي السورية، وحتى يقتلع البيئة الحاضنة للإرهاب حسب ادعائه، دمر جل المدن السورية، واقتلع السوريين من منازلهم، وحطم المجتمع السوري. إنها الآلة الوحشية التي صممها الأب وأطلقها الابن، لا لتقمعهم فحسب، بل لتدمير مدنهم وتحطم مجتمعهم. منذ الأيام الأولى للثورة السورية، كتب مجرمو النظام على الجدران السورية "الأسد أو نحرق البلد"، واليوم بعد أربع سنوات ومن سخرية القدر القاسية، أن الأسد أحرق البلد، وما زال قابعا على حريقها، ممسكا بسلطتها، على الأقل إلى اليوم.
استطاعت آلة القتل التي صممها الأسد الأب أن تفرض الصمت على المجتمع السوري، نجحت في إخراسه من جديد مطلع الثمانينيات، لكنها في العام 2011 لم تستطع إخراسه مرة أخرى، فما كان منها، إلا أن حطمت البلد والمجتمع، وما زالت مستمرة في تحطيمهما.