عين على مصر. قلب على سورية!

عين على مصر

قلب على سورية!

وليد جداع

لا تخطئ عين المتأمل في المشهد المصري العاصف، حجم المعارضة الشعبية الكبيرة، ونخب سياسية وثقافية وفكرية متنوعة جدا،  لحكم السيد محمد مرسي والإخوان المسلمين وقسم كبير من (الإسلام السياسي) منذ صعود السيد مرسي إلى السلطة بصورة ديموقراطية شفافة ونزيهة، إلى يوم الحشود الجماهيرية الهائلة المطالبة برحيل السيد مرسي والإخوان عموما من السلطة، الأمر الذي انتهى للأسف الشديد باستيلاء الجيش على السلطة وإزاحة مرسي وتعطيل الدستور وحل مجلس الشورى المنتخب. الأمر الذي هو في المحصلة تدخل (بالقوة السافرة) ضد شرعية دستورية شعبية،إذا لم نرد القول إنه انقلاب عسكري صريح!

ومن حقنا في سورية كوننا متأثرين بشكل مباشر بما يحدث في مصر، سواء من حيث تأثير الحكم في مصر على العلاقة مع المعارضة السورية والنظام السوري، سلبا وإيجابا، أو من حيث التعلم من التجربة المصرية وشؤونها وشجونها، أن نمعن النظر في هذه التجربة وآفاقها، على الرغم من مصابنا الأليم في أهلنا المعذبين الصامدين في سورية، وهو المصاب الذي يكوي الأفئدة ، ويكاد يحجب عن حياتنا كل اهتمام بقضية غير القضية السورية.

إن أول درس بالغ القسوة، هو أن الشرعية الدستورية التي نالها السيد مرسي، لم تكن حاسمة جدا، بحيث يستند عليها فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار عشرات العناصر الفاعلة والمؤثرة في المجتمع المصري. وأول مظاهر ذلك أن الذين قالوا لا للسيد محمد مرسي، في الانتخابات الرئاسية، كانوا أكثر قليلا من ثمانية وأربعين بالمئة من المصوتين! وهؤلاء صوتوا لمرشح من نظام مبارك تحديدا. أي أنه من النظام الذي ثار عليه المصريون أنفسهم. ألم يكن ذلك كافيا للسيد مرسي وللإخوان وحلفائهم ، ليدركوا حجمهم الحقيقي ، وحجم المعارضة لهم، ويدركوا أنهم لم يحققوا انتصارا كاسحا، يعطيهم حق الاستئثار بالسلطة ومقدرات الدولة، والاستناد إلى مثل هذا الانتصار الكاسح لتحقيق مشروعهم في النهضة والبناء. إن ثمانية وأربعين بالمائة من أصوات معارضة في حالة ثورية خاصة، لا يمكن إلا أن تزداد وتتنامى في حال الاستقرار أو شبه الاستقرار، لانعدام التأثيرات الثورية الضاغطة، ولوجود أسباب أخرى من النجاح أو الإخفاق تتعلق بمدى قدرة الحكم على العطاء، وهو ما يبدو أن السيد مرسي لم ينجح فيه إلا القليل. وهنا وفي انعكاس مباشر على تجربتنا السورية، وواقعنا في سورية، فإن من الضروري الإشارة إلى أن حال المجتمع السوري ستكون أكثر تعقيدا بالضرورة من الحالة المصرية. فليس في سورية -حقيقة-حالة تجانس ديني واجتماعي كما في مصر، وبالتالي فإن حصول حزب أو جماعة حتى على ثلاثين بالمائة من أصوات المقترعين ضرب من المستحيل! إن هذا هو بالضبط ما ينبغي أن تدركه كل التنظيمات من الآن لتعرف من ثم حجمها الحقيقي، وأن لا فرص لديها لأي نوع من الاستئثار أو الاستحواذ، لا الآن في بعض المناطق المحررة، ولا في المستقبل إذا قدر للشعب السوري الغلبة والانتصار.

وثاني هذه الدروس، وهو بالغ الدلالة والقسوة كثيرا، أن الجموع الهائلة المحتشدة في ميادين مصر مثل ميدان التحرير ومحيط الاتحادية،ضد مرسي وجماعته، ليست جموعا معادية للمشروع الإسلامي أو متنكرة له أو مناوئة للإسلاميين بالضرورة..وهي أيضا ليست تجميعا لجماهير مؤتمرة بنظام مستبد كما في عهد مبارك. بل هي جموع شعبية مصرية هائلة ، ناقمة على حكم السيد محمد مرسي ورفاقه، من حيث إخفاقهم وعدم قدرتهم على تحقيق آمال الشعب المصري. وكم كان باعثا على النظر والتأمل كيف أن المعتصمين في ميدان رابعة العدوية، المؤيدين للسيد محمد مرسي، كانوا يصلون المغرب والعشاء جماعات وأفرادا، كما معارضو مرسي المصلون في التحرير والاتحادية بالضبط ، وفي الوقت عينه! وكم كان لافتا وبالغ الدلالة كذلك، عشرات آلاف السيدات المحجبات من مختلف الأعمار والأزياء والطبقات الاجتماعية، ممن احتشدن في الميادين المعارضة لمرسي، إلى جانب عشرات آلاف أخرى غير محجبات. وهو أمر ينافي ما درجنا عليه عادة من اقتصار النساء المناوئات للمشروع الإسلامي على غير المحجبات! ينطبق ذلك تماما على بعض الرجال والشباب الملتحين الملتزمين ، المناوئين لمرسي أيضا. إن احتشاد هؤلاء السيدات وهؤلاء الرجال الذين يظهر عليهم الالتزام الديني بشكل واضح، ووقوفهم إلى جانب معارضة السيد مرسي ، يعني أن الذي دفعهم إلى ذلك، ليس معاداة المشروع الإسلامي، بقدر ما دفعهم إلى ذلك سياسات الرئيس وجماعة الإخوان عموما. إن دلالة هذا واضحة في أن الحالة الحزبية في النضال تختلف عن حالتها في حال الاستقرار، حيث تنتقل المعركة إلى ميدان آخر هو العمل السياسي. وهنا يمكن لأكثر الفرقاء التزاما أن يختلفوا ويتباعدوا، دون مساس بالتزامهم الديني على وجه التخصيص. إن المجتمعات العربية الإسلامية المتدينة أو المحافظة عموما، لا يمكن أن تكون حالا واحدة متماسكة منصهرة في كل شأن وكل قضية، على أساس ان هذا واجب ديني أو أخلاقي.إن هذا يخالف طبيعة الحياة وطبيعة الدين نفسه لما يتضمنه من فهومات وتأويلات، هذا فضلا عن أن التاريخ الإسلامي لم يقل أبدا إن المسلمين لم يختلفوا على أساس سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، أو حتى طبقي وعقائدي، منذ الخلافة الراشدة إلى الآن.

وثالث هذه الدروس القاسية ، أن تحقيق الإنجازات هو الرديف الأول للشرعية الدستورية، وهو الذي يعززها ويعطيها صدقية وبرهانا. وأن تفويضا بالقيادة  من الشعب، يتطلب تحقيق إنجازات في حيز الواقع المعاش من قبل جموع الشعب، وليس من المؤيدين فقط. إن المشكلات الخطيرة التي كانت تعاني منها مصر، نتيجة لحكم فاسد مستبد نهب المصريين عقودا، كانت تتطلب بذل جهود استثنائية في حل هذه المشكلات أو تحجيمها في الأقل. ويقينا أن تحقيق إنجازات مهمة تفيد عموم المصريين، لا سيما الفقراء ومحدودي الدخل ، كان سيخفف كثيرا من حجم المعارضة للسيد مرسي، ويعطيه فرصا أكبر في الاستمرار . هذا لا يعني أبدا أن حكومة السيد مرسي لم تحقق شيئا، بل يعني أن حجم إنجازاته لم يكن كافيا لعموم المصريين، بحيث ينال مزيدا من الثقة والتأييد.

هذه الملاحظات الجوهرية التي هي برسم أبناء الثورة السورية ليستفيدوا منها ، وليرتبوا أوراقهم على هدي منها، تفيد أول ما تفيد في أن على جماعات المعارضة كلها، أن تدرك أحجامها الحقيقية في الواقع السوري، وأنها ستكون جماعات متعددة جدا ومتعارضة متباينة الآراء والمعتقدات ووجهات النظر في كل مناحي الحياة السورية. دون أن يكون لأي منها غلبة كاملة وقدرة دائمةعلى الانتصار .. وهذه الملاحظة مهمة في حالة الاتجاه الإسلامي خاصة، حيث عليه أن يدرك أن ممكناته قليلة حين النزول إلى ميدان العمل الجماهيري أو السياسي في حال توفر الحريات السياسية والاستقرار. وأن عليه أن لا يظن استناده  إلى جدار صلب من الجماهير كما قد يتهيأ له من أجواء الانتفاضة السورية الحالية. هذا فضلا عن تحديات الإنجاز والعطاء ،وهو ما تبدو المعارضة السورية كلها قليلة الخبرة فيه، ولوجود حجم هائل من الخراب والدمار يحتاج إلى مئات بلايين الدولارات،وعشرات السنين من العمل الجاد المتواصل الذي تعجز عنه الحكومات والجماعات والأفراد جميعا.

لكن هذه الملاحظات وأشباهها، مما هي في جوهرها، انتقادات لعام من حكم السيد مرسي، لا تحجب أبدا عن أعيننا حقائق مؤلمة وخطيرة، بل مرعبة ومحبطة أحيانا، تتعلق بالأطراف الأخرى في المسألة. ومن هذه الحقائق ما هو متعلق بدور القوة العسكرية، أي الجيش والشرطة وباقي الأجهزة الأمنية، إضافة إلى مدى عمق الثقافة الديموقراطية لدى النخب السياسية والفكرية قبل الجماهير. هذا فضلا عن حجم التدخلات الخارجية في واقعنا ومنظماتنا وأحزابنا.

إن أول ما يحزن ويحبط ويقلق بل يرعب حقا، أن نخبا مصرية كثيرة متنوعة ، تحسب عموما على مسمى الليبراليين والقوميين واليساريين والكتاب والمثقفين، سحقت كل مفهومات الشرعية الدستورية والقانونية والحريات السياسية وحقوق الإنسان، وأساليب الديموقراطية وآلياتها، وارتدت عنها دفعة واحدة، بتحريضها أو تآمرها ، أو ترحيبها وابتهاجها، بالانقلاب العسكري الصريح على سلطة شرعية منتخبة ومقترع عليها بصورة نزيهة شفافة لا لبس أو غموض، فقط لأن الذين فازوا بهذه الانتخابات هم من اتجاه فكري أو سياسي معين، لا يرضيهم أو يشاركهم أو ينسجم معهم. وهم لأنهم لم يستطيعوا أن يحققوا أهدافهم بطريقة سلمية قانونية معتبرة، رأوا أن الاستناد إلى تدخل القوة العارية للجيش، إنقاذا لهم من عجزهم السياسي ، وحلا لمشكلتهم في عدم القدرة على تحقيق إنجازات سياسية تستند إلى الدستور والقانون. إن كل كلام هؤلاء وادعاءاتهم وأطروحاتهم عن الديموقرطية انهارت مرة واحدة، وتبين أنها ادعاءات وكذب رخيص مخجل. وكما كتب أستاذ أمريكي مرموق: إن الليبراليين المصريين يؤمنون بالديموقراطية بشرط أن لا يفوز عبرها الإسلاميون بالحكم. إنه من جديد ، كما في الجزائر وفلسطين وأقطار أخرى، تجهض التجربة الديموقراطية ، وترمى أدبياتها وأفكارها في القمامة، ويرتد منظروها اليبراليون واليساريون والقوميون العرب والمصريون خاصة إلى مستنقع الديكتاتورية والقمع والإرهاب!

كم هو محزن ومحبط ومرعب، أن أساتذة في الدستور والقانون ، وخبراء في السياسة والاجتماع ، وكتابا ومثقفين صدعوا آذان المصريين والعرب بالديموقراطية عقودا، ما لبثوا حين دقت ساعة الحقيقة، وبدت أول ثمار النضال الطويل من أجلها تنضج وتزهر، أن  انحدروا أخلاقيا وقيميا وممارسة ، فساندوا الانقلاب العسكري على سلطة منتخبة لا تعجبهم، وزعموا عبثا بالمعاني والمصطلحات، أن الشرعية (الشعبية) أقوى من الدستورية، وأن الجيش يمكنه أن يتدخل لتصحيح المسارات(التي لاتعجبنا) ومزاعم شبيهة لا تصمد لأي مناقشة نزيهة أو تحظى باحترام. ولا توجد في فقه دستوري أو قانوني أو أدبيات السياسة والاجتماع! حتى لكأن هؤلاء قد ابتكروا (ديموقراطية عربية) لم يرد مثلها من قبل، منذ أثينا مبتكرة الديموقراطيات حتى الساعة!

وفي الجانب السوري من المسألة. وحين نرى أن نخبا سورية معارضة، تظهر منذ الآن سلوكا شبيها بالسلوك المصري المذكور، فلا تؤمن بانتخابات داخل المعارضة أو توافقات، وتصر على تنفيذ أفكارها وأطروحاتها دون غيرها، وتمارس سياسة الإقصاء أو الابتزاز، ضد الاتجاهات الإسلامية حينا ، وضد بعضها بعضا حينا آخر، فإننا لا بد أن نتوقع ارتكاسات وانتكاسات خطيرة، مما ينذر بأخطار مستقبلية مقلقة. ويعزز من هذا أن بعض المعارضة السورية أعلن –مثلا- أن ما حصل في مصر هو إعادة للشرعية إلى الشعب المصري. فماذا ننتظر إذا من مثل هذه المعارضات، حين يوفق الشعب السوري إلى الانتصار وإقامة دولته الحرة! إنه سيكون دون شك أقسى وأشد ضراوة من المصريين الانقلابيين الذين يشيدون بهم، وقد لا يصبرون على وجود غيرهم في السلطة ثانية واحدة!

ولا يقل خطورة هنا، هذا الكم الهائل من الحقد والكراهية والحنق الكامن في الصدور، والذي بدا فاقعا فجا في وسائل الإعلام وفي المناقشات والتصريحات... كيف بمشاعر وتعبيرات مثل الخرفان والمجرمين والقتلة والإرهابيين وأصحاب التاريخ الطويل من القتل والإرهاب ...كيف لمثل أصحاب هذه المشاعر تجاه أبناء وطنهم أن تصنع سياسة ووطنا واجتماعا! حقا لقد بدا أن قطاعا من المصريين مستعد ليس فقط للانقلاب على سلطة لا تعجبهم، بل لافتراس أبناء وطنهم وسحلهم وصلبهم على جذوع الأشجار...كيف لمذيع مثلا أن يقول إنني لا أتمنى فلانا وراء القضبان يحاكم، بل أتمنى أن أراه يسحل ويقتل وتفعل به الأفاعيل...كيف لمثل هذه المشاعر أن تبني وطنا حقا؟؟؟ لقد ظهر على الساحة السياسية ضباط مخابرات وجيش سابقون، يتعطشون لساعة جديدة يسفكون بها دماء ابناء وطنهم، وساندهم في ذلك مثقفون وكتاب، نعجب حقا لما لديهم من قدرة على الحقد والكراهية وحب القتل والتدمير وسفك الدماء!

هل الساحة السورية خالية من مثل هؤلاء؟ بالتأكيد لا. ولذا فإن علينا أن نبذل جهودا حقيقية مضاعفة، نقرب بها بين أناسنا وأفكارنا واتجاهاتنا...نحن على الوضع المأسوي الذي نعيشه، نظهر فعلا قدرا كبيرا من عدم الثقة وعدم القبول بعضنا بعضا، وربما مشاعر أخطر من هذا ، في هذه اللحظات..كيف إذا سنكون حين يبدو لأحدنا حظ قليل أو كثير من التمكين والسلطة والقوة؟؟ لا شك أننا سنكون على شفا جرف قاتل وخطير.

أظهرت الثورة المصرية، كما السورية، منذ الانطلاقة الكبرى 2011تجليات رائعة من حب الوطن وحب الناس وحب الخير والحق والجمال...ولكنها تنذر في الوقت نفسه بأخطار حقيقية من أفكار الإقصاء، ومشاعر الحقد والكراهية، والرغبة حتى في الاستئصال، بالطريقة نفسها التي أظهرها كل الحكام القمعيين الدمويين.

عيننا على مصر، وقلبنا عليهم أيضا، أن ينزلقوا –وقد بدأوا- إلى فتن قاتلة ماحقة. وقلبنا على بلدنا سورية الجريحة المنهكة، أن تنتقل إلى أجواء الحرية في لحظة ما قادمة، فندمرها باختلافاتنا وكراهيتنا وأحقادنا، وعدم احتكامنا إلى توافقيات الدساتير والقوانين التي تنظم الحياة والأحياء، وتعطي-ما أمكن- لكل ذي حق حقه...

الساعة المصرية فارقة، وعلينا أن نقرأها جيدا وأن نتعلم منها، ليس للخلاص الكلي، إذ هو عسير المنال، بل لتجنب ما أمكن من عثرات ومخاطر ومهلكات.

2013/07/08

الحركة الدستورية السورية