المعلم والطالب
يوميات نصراوي:
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
حين كنت في الصف التاسع التقيت لأول مرة بمعلم اللغة العربية جمال قعوار* كان اسمه معروفا لي ولكني لم التق به شخصيا رغم اننا جيران!!
أثناء دراستي الابتدائية تميزت بقدرات لصياغة لغوية عربية سليمة، كان استاذ للغة العربية في الصفوف الابتدائية، المرحوم زهير فاهوم يعتبرني الأفضل بين طلابه في كتابة الانشاء واعطاني الحرية لأكتب ما اراه مناسبا، وبدأت وقتها صياغة اولى قصصي وللأسف لم احتفظ بشيء من تلك الكتابات الأولية وخاصة ملاحظات استاذي زهير الفاهوم.
رغم ضعفي في موضوع قواعد اللغة العربية وهي مشكلة تلاحقني حتى اليوم، الا ان علامتي اللغوية مرتفعة جدا بفضل لغتي الجيدة التي تعتمد على ممارستي للمطالعة والكتابة بشكل واسع منذ الصف الثالث ابتدائي..
لم اكتب اكتب حسب مفهوم ما، وعيي للفن القصصي قد يتشكل بعد، انما نوعا من التقليد والعشق للحكايات والقصص التي أقرأها او تروى لي، او التمثيليات التي نتابعها عبر الراديو وبعض الأفلام العربية التي وصلت الينا عبر الحصار الذي واجهناه ثقافيا منذ نكبة شعبنا عام 1948، ثم عشقت السينما الأجنبية لما فيها من خيال قصصي وتصويري، حتى لو لم أكن افهم الحوار ، مجرد متابعة الحدث المصور جعل خيالي ينطلق الى أبعاد لا يمكن تقييدها وبدون أي فكرة سابقة وجدت نفسي اكتب وامزق واعيد الكتابة.. اردت ان اكون منتجا وليس متلقيا فقط... وكنت ناقدا لنفسي، هل ما اكتبه في مستوى ما اشاهده او أقراه او استمع اليه؟!
أسعدني شخصيا وصول جمال قعوار ، الشاعر المعروف وقتها، ليكون استاذ اللغة العربية لصفنا.
في تلك الفترة نشرت مجلة "الجديد" الثقافية اولى قصصي ، الأمر الذي ملأني بنشوة غير عادية، لقد أصبحت كاتبا وليس قارئا فقط !!
اثر نشر قصتي هذه، ضمني الشاعر (الصديق فيما بعد لعشرات السنين) سالم جبران، لهيئة تحرير مجلة "الغد" الشبابية التي كان يرأس تحريرها، لأتدرب تحت اشرافه على الكتابة الصحفية وكنت قد تعرفت عليه سابقا بسبب اضراب مدرسي كنت ضمن قادته ، جاء سالم لتغطيته اخباريا، بعدها صرت عضوا في مجموعة تلتقي اسبوعيا في نادي الشبيبة الشيوعية في الناصرة لتستمع الى محاضرات ثقافية وفكرية وسياسية من سالم جبران، ، أعترف اني كنت متحمسا ومستعدا لخوض هذه التجربة الجديدة ، نشطت في الكتابة الصحفية ، لم تكن لدي مشكلة في صياغة النص، انما بعد ملاحظات حول شكل انتاج التقرير الصحفي، متطلباته، لغته وما لمسته من تصحيحات ما اكتبه للمجلة، بدأت ادخل عالم الصحافة بثقة كبيرة، ومعرفة هامة ساعدتني في تطوير صياغتي اللغوية ، التخلص من الديباجة،السجع اللغوي والانتقال للغة الصحافة التي وجدتها اكثر دفقا وسهولة في التعبير وقربا من المناخ الثقافي لمجتمعنا.
ضمن هذه الأجواء . التقيت باستاذي الجديد جمال قعوار.
مستوى زملائي الطلاب كان متدنيا، طلاب الصف ، من الناحية اللغوية ضعفاء، كانت دراستنا للكثير من المواضيع باللغة العبرية لسبب كون مدرستنا فرعا لمؤسسة عبرية ( ثانوية صناعية) وهي الأولى من نوعها في الوسط العربي في تلك الأيام واعتقد انه لم تنشأ مدرسة أخرى مثلها في البلدات العربية.
لا بد من رواية حادثة معبرة جرت بيني وبين استاذي جمال قعوار.
في درس الانشاء العربي طلب استاذنا جمال ان نكتب عن "شخصية احببتها"،
كعادتي أنجزت موضوعي بنفس اليوم، لكن زميلان لي طلبا مساعدتي في كتابة موضعين لهما. بلا تردد كتبت موضوعين آخرين ، الشخصيات التي اخترتها هي يوري غغارين الانسان الأول الذي حلق في الفضاء الكوني، كان هذا موضوعي، ثم كتبت موضوعان عن جمال عبد الناصر وجمال الدين الأفغاني لزملائي في الصف.
من الواضح ان تمرسي بالكتابة الصحفية اضفى على اسلوبي قيمة صحفية ، خاصة موضوع غغارين، الذي جعلته تحقيقا صحفيا وليس مجرد كتابة لطالب في الصف التاسع، يتحدث عن انطباعاته.
استاذي جمال اعاد لي دفتر الانشاء مع ملاحظة تقول "لا ادري من اين نقلت هذا الموضوع" واضاف ما معناه ان "الهدف ان اكتب بلغتي وان لا انسخ موضوعا من المجلات".
اصبت بدوار وقلق عميق ولا انكر اني كنت غاضبا ومستفزا.الموضوعان الآخران حصلا على علامات مرتفعة جدا، واشادة بالزميلين لقدرتهما على كتابة انشاء جيد. الأمر الذي اضحكني بمرارة.
اخذت دفتري الزميلين معي وطلبت مقابلة الاستاذ جمال، فاستقبلني بدماثته وبسمته التي افرغت توتري.
صارحته اني كاتب الموضوع حقا، واني لا اعرف مجلة نشرت عن غغارين كما نشرت انا عنه، وان مادتي عنه ستظهر في مجلة "الغد" في عددها القادم وها انا اقدم له مجلة "الجديد" مع قصتي المنشورة بقلم الشاب الناشئ نبيل توفيق عودة، تأملني للحظة وقال لي انه متفاجئ حقا من طالب في جيلي استطاع ان ينشر قصة في الجديد التي كانت تعتبر أفضل المجلات العربية اطلاقا وليس داخل مناطق 48 فقط.
عندها سالته ما رايه بالموضوعين عن جمال عبد الناصر وجمال الدين الافغاني اللذان قدمتهما باسم زميلين لي من الصف..لم يجب فورا ، تاملني، لمحت ابتسامة ترتفع فوق شفتيه وسأل وهو يكاد يضحك: "لا تقل لي انك صاحب الموضوعين؟"
لم اقل شيئا.. قال: "اعطني دفترك"
قدمت له الدفاتر الثلاثة...
شطب ملاحظته من دفتري وكتب: "ممتاز 110 / 100 وتستحق أكثر!!" ثم اضاف: " ماذا عن صاحبيك"؟ قلت "يبقى الأمر سرا بيننا!"
لم اعد تلميذه فقط، بل صرت زميله يحدثني عن الأدب ومشاكل ثقافتنا، احيانا افهم ما يقول واحيانا اصمت خوفا من اظهار عدم فهمي.
كان يحضر صحيفة يومية ينشر فيها كتاباته من نثر وشعر... وكثيرا ما سالني رأيي بما اقرا من قصائده. بالطبع ما اكنت الا مادحا حتى لو استعصت علي بعض التعابير...
حين تقاعد وأنشأ مجلة "المواكب" وجدت فيها بيتا ثقافيا، للأسف توقفت المجلة التي احتلت لفترة طويلة مكانة هامة على الساحة الأدبية، اعرف من تجاربي كم هو صعب اصدار مجلة بدون دعم من مؤسسة وبعمل فردي وبجهود جبارة.
مجلة "المواكب" كانت نقلة نوعية في مسيرة الدكتور جمال قعوار، انتقل من كونه استاذا لمجموعات طلاب الى استاذ لشعب كامل ، بمثقفيه وطلابه وناسه، ليس في المجال الأدبي فقط انما في التعبير عن الحلم الوطني الفلسطيني!