مقدمة ابن خلدون: منهج علمي
ونظرات ثاقبة في علم الاجتماع
معين رفيق
مشرف اللغة العربيّة-مديرية تربية جنين
مؤلف كتاب "من روائع قصص سرعة البديهة، والردود البليغة"
لا يملك مَن يقرأ مقدّمة ابن خلدون- ت808هـ، 1406م- إلاّ أن يُعجَب بهذه العقليّة الفذّة التي سبقت عصرها بعشرات السنين، وسواء اتفقتَ أو اختلفت مع الاستنتاجات التي يتوصّل إليها، ليس لك إلاّ أن تسلّم بالمنهج العلمي الّذي يعتمد عليه في قبول أو رفض المنقولات التاريخية، ويغوص من خلاله في أعماق الظواهر الاجتماعية باحثاً عن أسبابها المشكِّلة لها؛ وهو لذلك اعتبر- بحقّ- المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع، والمبتكر لقواعده وقوانينه.
وفيما يأتي بعض اللمحات الموجزة من منهج ابن خلدون المثير للدهشة والإعجاب، والذي ورد في مقدّمته الشهيرة، والتي هي بدورها جزء من كتابه المسمّى: "كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر".
يرفض التقليد الأعمى
يعيب ابن خلدون على المقلّدين الذين ينقلون الأخبار عمّن سبقهم دون أن يُعملوا عقولهم في تمحيص ما وصلهم، ليميّزوا الغثّ من السمين، فيقول: "ثمّ لم يأت من بعد هؤلاء (يقصد المؤرخين المتخصصين)، إلاّ مُقلِّدٌ وبَليدُ الطّبع والعقل، أو مُتبلّد ينسج على ذلك المنوال.." مقدّمة ابن خلدون\ص14.
يطالب بثقافة موسوعيّة لدارس التاريخ
ويطالب ابن خلدون المتصدّين لكتابة التاريخ ونقله أن يكونوا من أصحاب المعارف، وأن يكون لديهم باع طويل في أحوال الدّين والدّنيا، وإلاّ وقعوا في المغالطات والأخطاء " لأنّ الأخبار إذا اعتُمِد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يُؤمَن فيها من العثور، ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق" مقدّمة ابن خلدون\ص21.
ولذلك نراه في بداية كتابه يُشير إلى ما قد يعرِض للمؤرّخين من المغالطات والأوهام، ويحاول أن يقف على أسبابها، ويرى أنّ بعضا منها متعلّق بطبيعة النفس البشريّة، المولعة بالغرائب والمبالغات فيقول: "وما ذلك إلاّ لولوع النّفس بالغرائب.. ولا يُرجعها [أي صاحبها] إلى بحث وتفتيش، فيرسل عنانه، ويسيم في مراتع الكذب لسانه.." مقدّمة ابن خلدون\ص25.
يدعو إلى تحكيم العقل وسنن الحياة
وهو لذلك يدعو إلى تحكيم العقل، وقوانين العمران في كشف زيف هذه الأخبار، إلى درجة أنّنا لا يجوز- من وجهة نظره- أن نبحث في سند الخبر، ومدى صدقيّة ناقليه إذا ما كان متن الخبر نفسه لا يعدو مجرّد خرافات، فيؤكّد أنّه "لا يُرجَع إلى تعديل الرّواة حتى يُعلَم أَنّ ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأمّا إذا كان مُستحيلا، فلا فائدة في النظر في التعديل والترجيح." مقدّمة ابن خلدون ص58.
وبعد أن يعرض لصور من الأخبار الخيالية المستحيلة التي وردت في بعض كتب المؤرخين يعترف بالإطناب في ذلك، ولكنّه يبيّن السبب الذي دفعه إلى ذلك الإطناب، ألا وهو الحالة التي آل إليها علم التاريخ، بحيث صار يُفتي فيه العوام لا العلماء ، واختلطت فيه الحقائق بالأوهام، "فقد زلّت أقدام كثير من.. المؤرّخين الحفّاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء [الواهية].. ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النّظر والغفلة عن القياس.. حتى صار فنّ التاريخ واهياً مختلطاً، وناظره مُرتبكاً، وعُدّ من مناحي العامّة" مقدّمة ابن خلدون\ص47.
ونراه ينتقد المسعودي- صاحب كتاب مروج الذّهب- بسبب عدم تحقّقه من بعض الأخبار التي يوردها في كتابه؛ ولأنّه نقلها عن غير ذوي الاختصاص، فيقول عنه: " فما صادفَ تحقيقاً ولا إصابةً، ويظهر من كلام الرّجل أنّه كان بعيداً عن الرّسوخ في المعارف، فينقل ما سمع من أهله، ومن غير أهله.." مقدّمة ابن خلدون\ص145.
ولا بدّ لنا من الإفادة من هذا المنهج في مدارسنا وجامعاتنا، بحيث لا يقوم تعليمنا على التلقين، والتسليم الأعمى للموروث ولِما قيل، وليس ذلك من باب النقض والتهديم، وإنّما من باب النقد والتطوير، وإن لم نفعل نكن كمن ينشغل بالحرث على الماء.
يكتشف بعضا من قوانين علم الاجتماع
أمّا على المستوى الاجتماعي، فقد أبدع ابن خلدون حين راح يرصد النتائج المترتبة على طريقة معاملة النّاس، من قبل الرؤساء والمسؤولين، ذلك "أنّ الرؤساء والأمراء المالكين لأمر النّاس قليل بالنّسبة إلى غيرهم، [ولذلك] فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره [تحت حكم غيره] ولا بدّ". مقدّمة ابن خلدون\ص167، وفي هذه الحال قد تكون إدارة هؤلاء الرؤساء قائمة إمّا على الشدّة والعقوبة، أو على الرفق والعدالة.
أثر الرفق والعدالة
ويحذّر ابن خلدون من كوارث السياسة الأولى القائمة على قهر المرؤوسين وصدّهم، بينما يشيد بنتائج السياسة الأخرى المنبسطة بالرفق والعدالة؛ لأنّ السياسة الرفيقة العادلة تجعل النّاس واثقين من أنفسهم، مظهرين لما في دواخلهم، لا يخشون من وازع خارجيّ يثير فزعهم، فيقول: "فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة، لا يعاني منها حكم ولا منع وصدّ، كان من تحت يدها [أي المرؤوسين] مدلين [واثقين] بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين بعدم الوازع، حتى صار لهم الإدلال جبلّة [خلق] لا يعرفون سواها" مقدّمة ابن خلدون\ص167.
مخاطر القهر والعقاب
وعلى النّقيض من ذلك، يعتقد ابن خلدون أنّ الإدارة إذا كانت قائمة على القهر والعقاب، فستعمل على كسر نفوس النّاس، وتثبيط هممهم: " فتكسر-حينئذ- من سورة بأسهم [شدّة قوّتهم]، وتُذهِبُ المَنَعةَ عنهم، لِما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة.." مقدّمة ابن خلدون\ص168، وفقدان الدافعيّة للعمل، والإحساس باللامبالاة، بسبب شعور تلك النفّوس بالإذلال.
ويحذّر ابن خلدون من أنّ العقابَ والإذلال يُحطّمان شخصيّة الإنسان، ويورثانه صفة الذلّ، فيقول: "وأَمّا إذا كانت الأحكامُ بالعِقابِ، فمُذهبةٌ للبأس بالكلّية؛ لأنّ وقوعَ العقابِ به [بالشخص المُعاقَب] ولم يدافعْ عن نفسِه، يُكسبُه المَذلّةَ التي تكسرُ مِن سَورة بأسِه [تُحطِّم شخصيّته] بلا شك.." مقدّمة ابن خلدون\ص168. وهو بهذا التحذير يسبق كلّ الأفكار الحديثة التي تحدّثت عن خطورة التعامل القائم على أساس القهر والعقوبات مع النّاس.
ونراه يرصد الآثار السلبيّة الأخرى لسياسة العقوبات المجحفة في مجالي السياسة والتعليم؛ فهي من جهة- كما أشار- تُكسب المعاقَب صفة الخنوع وعدم القدرة على الدفاع عن نفسه، ومن جهة أخرى فإنّ سلوك النّاس المعرّضين للعقاب، لن يكون نابعاً من قناعاتهم، بل من شيء خارجيّ أجنبيّ، مفارق لوجدانهم، يخيفهم ويردعهم، "فقد تبيّن أنّ الأحكام السلطانيّة والتعليميّة مفسدة للبأس؛ لأنّ الوازع فيها أجنبيّ.." مقدّمة ابن خلدون\ص169.
يستدلّ بقصّة جنديّ مبادر؛
يصدّه سعد، ويعزّزه عمر
ويستشهد ابن خلدون بما ورد عن الخليفة العادل عمر بن الخطّاب، ليدلّل على خطورة قهر النّاس، وكبح جماح مبادراتهم، وذلك حينما نهى عمر- رضي الله عنه- سعداً بن أبي وقّاص عن مصادرة ما غنمه جنديٌ مقدام استطاع بعد مخاطرة كبيرة قَتْل القائد جالنوس ومصادرة ما يمتلكه، فيقول: "وقد نهى عمر سعداً- رضي الله عنهما- عن مثلها [عن مثل سياسة القهر]، لمّا أَخذَ زهرةُ بن جوية سَلَب الجالنوس، وكانت قيمته 75 ألفاً من الذهب.
وكان [الجنديّ زهرة] اتّبع الجالنوس يوم القادسيّة فقتله، وأخذ سلبه، فانتزعه منه سعد [صادره منه]، وقال له: "هلاّ انتظرتَ في اتباعه إذني؟ [كان عليك أن تحصل على موافقتي قبل ملاحقته؟]، وكتب [سعد] إلى عمر يستأذنه [يطلب إذنه في مصادرة غنائم الجندي زهرة]، فكتب إليه عمر [معاتبا، ورافضا لقراره]: "تَعمدُ إلى مثل زهرة، وقَد صُلي بما صُلي به [أي قاسى شدائد الحرب]، وبقي عليكَ ما بقيَ من حَربك [لم تستكمل بعد قتال الأعداء]، وتكسر قَرنَه [تُثبّط همّته]، وتُفسد قلبَه"؟ وأمضى له عمرُ سلبه." [أعاد لزهرة غنيمته على كثرتها]. مقدّمة ابن خلدون\ص168
وفي ذلك عبرة للقادة والرؤساء، تحثّهم على تعزيز أصحاب المبادرة والطّموح ومكافئتهم، وتحذّر من خذلانهم، ومن كسر الروح الوثّابة الخلاّقة في نفوسهم؛ لأنّ بهؤلاء المبادرين- صنّاع الحياة- تنهض الأمم، وترتقي الشعوب، وترتفع المعنويّات.
تلك كانت مجرّد ومضات من منهج ابن خلدون العلمي والاجتماعي، وهي غيض من فيض معين منهجه المدهش، ونظراته الثاقبة، وقوانينه المدهشة في العمران البشري، وهي التي منحت صاحبها الرّيادة، وجعلته بحقّ المؤسّس الفعلي لعلم الاجتماع.