قصتي مع المخابرات السورية
قصتي مع المخابرات السورية
قصة عادية من الحياة اليومية لمواطن سوري
الجزء الثاني والأخير
طريف يوسف آغا
ذكرت في الجزء الأول من هذا المقال كيف عملت لفترة قصيرة كمهندس ميكانيك في مؤسسة تنفيذ الانشاءات العسكرية قبل سفري إلى أمريكا في ثمانينيات القرن الماضي. ثم كيف حصل خلاف وظيفي بيني وبين أحد الذين كانوا يعملون تحت إشرافي انتهى بطلبي استبداله بشخص أكثر كفاءة، فقام بتهديدي علناً. ليتبع ذلك بعدة أيام مواجهة بيني وبين ضابط أمن المعسكر بسبب تجاوزه للقانون انتهت بحجزي لسيارته وطرده من المعسكر. استلمت بعد أيام رسالة من الديوان لمراجعة أحد أفرع المخابرات، علماً بأن الشخصين المذكورين هما من الطائفة العلوية وقريبين بالمصاهرة.
صحيح أن الاستدعاء لمراجعة المخابرات بهذه الطريقة (الحضارية) أفضل من إرسال دورية أمنية لاحضار المطلوب موجوداً من البيت أو الوظيفة كما هي العادة في سورية، إلا أن هكذا استدعاء في كافة الأحوال ليس دعوة إلى فندق أو مطعم خمس نجوم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فالمواطن الذي يستدعى للأمن في سورية مذنب حتى تثبت برائته، وليس العكس. ولكن وكون (الله يبلي ويعين)، فقد شائت الظروف أن كان لنا صهر برتبة لواء في الجيش مايزال في الخدمة، والذي بالرغم من أنه لم يكن من الطائفة (الكريمة) إلا أنه كان بعثياً قديماً ولديه مجموعة معارف واسعة. وقد كان النظام يحافظ على أمثال هؤلاء الأشخاص ليتبجح بأنه ليس نظاماً علوياً، علماً بأن معاون قريبنا هذا والذي كان يلازمه كظله كان علوياً. كانت علاقتنا العائلية بالرجل وأسرته وثيقة، خاصة وأنه سبق وخدم حين كان برتبة نقيب في قطعة كانت بامرة والدي الذي كان برتبة عميد، وبالتالي كان يكنّ لوالدي احتراماً وتقديراً كبيرين. اتصلت به وزرته في مكتبه في الأركان حيث شرحت له الموضوع ووضعت رسالة الاستدعاء أمامه على المكتب. فما كان منه إلا أن طمأنني وأخبرني بأنه يعرف رئيس الفرع صاحب العلاقة شخصياً، ثم رفع سماعة الهاتف واتصل به وسأله على سبب الاستدعاء، مشيراً له بأني قريبه. فأتاه الجواب بأن هناك تقريراً مخابراتياً في حقي وأن تهمتي هي (سب الرئيس) علناً، وذلك في نفس الليلة إياها التي كنت فيها ضابطاً مناوباً وطردت فيها ضابط أمن المعسكر. من جهتي، فكنت في حينه قد أطلعت قريبنا اللواء بتفاصيل الحادثة ليكون في الصورة إذا دعت الحاجة، وهاهي قد دعت.
وضع الرجل سماعة الهاتف وأكد لي بأنه واثق من أن هذه التهمة مفبركة وأنها على مايبدو انتقام لما حصل ليلة المناوبة، وأن كاتب التقرير هو على الأغلب ضابط الأمن نفسه. وقد علمت فيما بعد أن تهمة (سب الرئيس) كانت منتشرة كثيراً تلك الأيام، ويستعملها كتبة التقارير الأمنية كوسيلة للانتقام من خصوم تحكم بينهم خلافات شخصية أو وظيفية. وهم يلجأون لتهم من هذا النوع لتصفية حساباتهم معهم في حال عدم توفر تهم حقيقية لديهم ضدهم، ويعتمدون على علاقاتهم الأمنية لحرمان المتهم من فرصة الدفاع عن نفسه وتفنيد التهم الموجهة إليه. ولهذا فقد طمأنني اللواء وطلب مني مراجعة الفرع المذكور في التاريخ والوقت المحددين وأنه سيقوم بما يلزم لمساعدتي وإظهار الحقيقة.
لم تمض أيام قليلة حتى انتشر الخبر في المؤسسة انتشار النار في الهشيم، وأصبح حديث المجالس على كافة المتسويات. كان الشامتون يتباهون أن هذا ماينتظر من يتجرأ على الأسياد من (شريبة المتة)، أما المتعاطفين معي فكنت أرى عيونهم وكأنها تقول: (ياحرام، بعدو بعز شبابو). وقد قررت حينها أن أضفي على الموضوع صفة رسمية بأن أطلب الاجتماع بالمدير العام ومديري المباشر لوضعهما في الصورة وسماع ماعندهما ليقولان، دون أن أذكر لهما طبعاً اجتماعي مع قريبنا اللواء. وكما توقعت، فقد أبدى كل منهما أسفه وتعاطفه معي، ولكن أيضاً عجزه عن التدخل أو المساعدة، وذلك على مبدأ (مادخلنا)، وكما ذكرت سابقاً، فالاثنين كانا من الطائفة (الكريمة) أيضاً.
وأخيراً أتى يوم الاستدعاء وذهبت إلى الفرع المعني بالموضوع حيث استقبلني العميد رئيس الفرع والذي كان طوله أكثر من مترين ووزنه أكثر من مئتي كيلو غرام وكان في كامل لباسه العسكري ورتبه ونياشينه، وطبعاً لم يخيب ظني وكان من الجماعة. كانت أول عبارة بادرني بها (هنت المهندز يللي سبيت الرئيس؟) ولما لم أجبه، رسم على وجهه ابتسامة صفراء وطلب مني الجلوس على الكنبة أمام طاولة مكتبه مطمئناً لي بأنه توصل إلى الحقيقة. كان تدخل قريبنا اللواء قد دفع الرجل إلى أخذ الموضوع بصورة جدية، وقام بتحقيقاته ليجد أن التقرير كان كاذباً جملة وتفصيلاً. خاصة أنه لم يحظ بدعم أي من الشهود الذين سماهم ضابط الأمن وادعى أنهم سمعوني، وذلك بعد أن أعطى العميد هؤلاء الشهود الأمان وحذرهم من الكذب أو شهادة الزور ووعد بحمايتهم من كاتب التقرير.
طلب مني العميد يومها الانتظار في غرفة جانبية، ثم استدعى ضابط أمن المعسكر الذي كتب التقرير وواجهه بنتائج التحقيق وأقوال الشهود واتهمه بالكذب ونصحه بقول الحقيقة. فمالبث الرجل أن انهار وقال أن تقريره كان نتيجة لمعلومات زوده بها شخص آخر، وأنه بصراحة لم يسمعني أقوم بالسب. وما أن انتهى من عبارته هذه حتى بدأت أسمع أصوات صفعات وركلات العميد تنهال على الرجل بالجملة، وكذلك الشتائم من الوزن الثقيل، وعبارات التوسل وطلب الرحمة من صاحبنا، ليأمر العميد بعد ذلك حاجبه باخراجه والتحفظ عليه. دعاني بعد ذلك إلى غرفة مكتبه من جديد واعتذر لي عن كل ماحصل ووعدني بأن صاحب العلاقة سينال جزائه، ثم ودعني إلى الباب وصافحني وطلب مني أن أسلم على قريبي اللواء. وخلال لحظات مصافحتي له شعرت وكأن العالم قد توقف لبرهة، فنظرت في عينيه وسألته بيني وبين نفسي (هل كنت حقاً ستعاملني بهذه الطريقة الحضارية لولا قريبي؟ بل هل كنت حقاً ستستمع لقصتي وتستدعي الشهود وتسألهم، أم أني كنت سأختفي إلى الأبد في إحدى زنزاناتكم، مثلي مثل الآلاف المؤلفة من السوريين؟)
لابد من كلمة حق هنا، فقد كان هناك العديد من الشباب العلويين الموظفين في المعسكر الذين وقفوا إلى جانبي وأيدوني خلال هذه التجربة، واحتفلوا بي عندما انتهت بهذه النهاية. بل ومنهم من وصف ابن طائفته الذي كتب التقرير ومن دفعه لكتابته بأنهم حثالة العلويين ولايمثلون مجمل الطائفة. وهذا يؤكد بأن هناك دائماً (الصالح والطالح) في كل فئة وجماعة، ولكن ومع تقديري واحترامي الشديدين لهؤلاء، فقد وجدت بالتجربة أن (الطالح) في تلك الطائفة هو القاعدة وأن (الصالح) هو الاستثناء. ومما أدهشني أن أحد هؤلاء الذين وقفوا معي أخبرني أن كاتب التقرير ومن كان ورائه لم يتوقعوا أن يأخذ التحقيق ذلك المنحى وأن يكون هناك استدعاء للشهود، بل توقعوا أن تتم إدانتي يوم المراجعة وأن يتم الاحتفاظ بي في سجن الفرع. كما أخبرني أنهم كانوا قد قاموا بترتيب ذلك مع مدير سجن تدمر العسكري، وهو ابن عم الرجل الذي نقلته من دائرتي، الذي كان بدوره صهر ضابط الأمن الذي طردته من المعسكر وحجزت سيارته. كانوا قد رتبوا أن يتم ترحيلي من سجن الفرع إلى سجن تدمر على وجه السرعة، وربما في نفس اليوم، حتى لايتمكن أحد من التدخل لصالحي أو تتبع أثري، وطبعاً لاداعي لذكر ماذا ينتظر نزلاء سجن تدمر، وهو الأسوأ صيتاً في سورية.
كنت قد ظننت أن القصة قد انتهت على ذلك، وكان كاتب التقرير قد تم إخلائه بعد فترة قصيرة، عن طريق (واسطة) بطبيعة الحال، ولكن تم فصله من المؤسسة بأمر من جهات (عليا) لم يعرف أحد مصدرها. إلا أنه لم يمض شهر على الحادثة إلا وتم تسليمي عبر الديوان وبنفس الطريقة السابقة رسالة استدعاء جديدة لفرع مخابرات آخر، وطبعاً دون إعلان للسبب. سارعت بالاتصال بقريبنا من جديد وقمت بزيارته في مكتبه وأريته الرسالة، فكرر مافعله في المرة السابقة حيث رفع السماعة واتصل برئيس الفرع صاحب العلاقة وسأله عن سبب الاستدعاء. ثم مالبث أن ابتسم وأنهى المكالمة وقال لي ضاحكاً: لاداعي للقلق إذ ليس هناك تهمة هذه المرة، بل يريدون التعرف عليك، ولاتنس المرور بمكتبي بعد المراجعة لوضعي بالصورة.
وفعلاً ما أن وصلت إلى الفرع في اليوم والساعة المحددين، وهو في نفس مبنى الفرع الأول في ساحة الأمويين، ولكن في غير طابق، حتى استقبلني رئيسه المقدم ورحب بي بحرارة قائلاً: أهلين بأخونا (المهندز). بتشرب شاي لما قهوي لما مَتّي؟ المشروب (هين) إجباري. بعد دعوتي للجلوس على إحدى الكنبات، وتصدره خلف طاولة مكتبه، دخل الرجل بالموضوع مباشرة وقال لي بأنه استدعاني إلى فرعه لأتوسط لاعادة كاتب التقرير إلى وظيفته التي فقدها بسبب الموضوع. وأكد لي بأنه لايؤيد كتابة التقارير الأمنية الكاذبة، وبالتالي لايؤيد ماقام به صاحب العلاقة، ولكنه في الوقت نفسه يرى أن فصله من الوظيفة يضر بأسرته، وخاصة أولاده الصغار، باعتباره معيلهم الوحيد. ولم ينس الرجل ذكر مثل (قطع الأعناق ولاقطع الأزراق) وأضاف بأن (القتلة) التي نالها الرجل كانت كافية لمعاقبته. نظرت إلى محدثي في عينيه وسألته في نفسي: وماذا عن أسرتي التي كانت ستفقدني، ربما إلى الأبد، لو نجحت الخطة بإرسالي إلى سجن تدمر؟ أم أن العلويين هم نخب أول ونحن السنة نخب ثاني؟
أما ردي (المسموع) على الرجل فكان بأني لست من أصدر قرار الفصل، بل المدير العام، وبالتالي فهو صاحب العلاقة وهو من كان يتوجب إحضاره إلى الفرع وتوجيه الطلب له. ضحك المقدم وقال لي مازحاً ومحاولاً التظاهر بالظرافة: نحن نعرف كما أنت تعرف أن قرار الفصل لم يأت من المدير العام، وإلا لكان الأمر سهلاً وماكنا استدعيناك إلى هنا، ولكن الأمر أتى من (فوق) وهو وقع عليه فقط. من جهتي، وحتى أنهي هذه المحادثة العقيمة، وأريح نفسي من الرائحة الكريهة للمكتب والتي كانت مزيجاً من رائحة السكر المحروق والمتة والتبغ والعرق والجرابات والأحذية، فقد وعدت الرجل بأني سأبذل جهدي، فرافقني إلى باب الفرع مودعاً. عدت إلى مكتب اللواء حسب اتفاقنا وأطلعته على تفاصيل المقابلة فضحك وقال لي: (مافشر يرجع على وظيفتو هالكذاب) ثم طلب مني أن لاأهتم للأمر وأتركه له.
حصل كل هذا قبل اسبوعين أو ثلاثة من سفري إلى أمريكا والذي كنت أفكر وأحلم به منذ أيام الدراسة الثانوية. وقد حصلت على إجازة بلا راتب من المؤسسة لمدة عام ثم أرسلت الاستقالة لاحقاً عندما قررت البقاء هناك. عدت إلى سورية بعد ذلك مرة واحدة في بداية عام 1994 كمهندس صيانة لصالح شركة أمريكية مختصة بتسويق تجهيزات وعدد طبية عينية متطورة في الشرق الأوسط، وكانت مهمتي تستدعي ذهابي أيضاً إلى لبنان ومصر. ولكن وماأن وصلت مطار دمشق حتى تم تسليمي وباليد بطاقة مراجعة لعدة أفرع أمنية هذه المرة، وليس فرعاً واحداً، وكذلك بطاقة لمراجعة المحكمة العسكرية! ولكن ولحسن الحظ، فقد كان قريبنا اللواء مايزال في الخدمة، وأعلمني بأن المخابرات تريد رؤيتي كاجراء (روتيني) لتوجيه بعض الأسئلة (الروتينية) عن إقامتي في أمريكا، أي ليس هناك تهمة وبالتالي فلاداعي للقلق. أما الاستدعاء إلى المحكمة العسكرية فقد كان لأن مؤسسة (متاع) ادعت بأنها لم تستلم استقالتي من الوظيفة في حينه، وبالتالي رفعت علي قضية جرم (ترك عمل).
هكذا هم السوريون من أبناء الأكثرية السنية، وخاصة من لايرضى أن يعيش في ظلهم عيشة العبيد، تجدهم ملاحقين ومضطهدين داخل وطنهم، ومحكومين ومطلوبين وهم خارجه. الرسالة التي يوجهها لهم هذا النظام الطائفي المافيوي هي: اتركوا لنا سورية ولاتعودوا لنصبح أكثرية فيها، وإن عدتم سنجعلكم تندمون على ذلك ونجعلكم لاتكرروها ثانية. لانريد أن نرى وجوهكم وإنما فقط دولاراتكم التي ترسلوها. كانت خطتي أن أبقى بين سورية ولبنان ومصر حوالي الشهرين لأتمم المهمة، ولكن وبسب تلك المراجعات فقد بقيت أكثر من سبعة أشهر لعدم موافقة الجهات الأمنية تجديد جواز سفري حتى استكمال هذه المراجعات.
في نهاية المقال، مازلت وأنا أستعيد ذكرى هذه التجربة، أحاول أن أتخيل الحقد بل والاجرام الذي يمكن أن يدفع فرداً أو جماعة لفبركة تهمة لارسال شخص إلى مكان قد يقتل فيه، لالشئ ولكن لخلاف شخصي أو وظيفي. وإذا كنت محظوظاً ووجدت من دعمني وأجبرهم على سماع قصتي واستدعاء الشهود، فكم عدد هؤلاء الذين كانوا أقل حظاً ولم يجدون من يسمع قصتهم ويتحقق من تهمهم، فراحوا ضحية الحقد أو الاجرام أو حتى المزاجية. هذا هو النظام الأسدي من رأسه إلى أخمص قدميه، عصابة مافيا بكل مافي الكلمة من معنى، فهل هناك من مازال يستغرب سبب تأييدي للثورة؟